بقيت السعودية خارج "لقاء الآستانة" إلى الآن. إنها بلاد الديبلوماسية الجامدة، الستاتيكية. تدخل ولا تعرف كيف تخرج. تسير ولا تعرف كيف تنعطف. تتقدم ولا تعرف كيف تتراجع. أقصر درب لفهم هذا الجمود البنيوي في الحركة السياسية للنظام السعودي، هو التمعن في الصور التذكارية لممثلي "الدول الضامنة" لهذا "اللقاء" السوري ـ السوري في كازاخستان.
تظن أنها تبادر. تمـدُّ السعودية خطوط "تفاؤل" بينها وبين الرئاسة الأميركية الجديدة. يبدي وزير الخارجية عادل الجبير استعداد "بلاده للعمل على سائر الملفات" مع إدارة الرئيس دونالد ترامب. ذكّره بأن "مصالح المملكة تلتقي [مع الولايات المتحدة] أكان بالنسبة إلى سوريا أو إيران أو العراق أو اليمن أو ليبيا، ومحاربة الإرهاب ومسائل الطاقة، والقضايا المالية".
ولكنا جميعاً نعلم، أن السعوديين "يعملون" مع الإدارات الأميركية المتعاقبة على هذه "الملفات" منذ سنين. حريٌّ بوزير خارجية "خادم الحرمين الشريفين"، أن يكتب بياناً يفصل "منجزات" هذا "العمل" المشترك على تلك "الملفات". لكي يطلع عليه الرأي العام، أو الأسرة الحاكمة. وعلى وجه الخصوص في سوريا التي سببت كساحاً لدى (بعض أركان) النظام الدولي ـ الإقليمي القديم.
راهنت السعودية على البقاء في الفلك الأميركي حصراً. قبل أيام من "لقاء آستانة" كان سفير الرياض في موسكو يقول : "إنه ليس سراً على أحد أن هناك اختلافات في نظرتي السعودية وروسيا إلى الأزمة السورية، ولكن ذلك لا يؤثر على مستوى التعاون الثنائي. فهناك تواصل بيننا للتنسيق ومناقشة وجهات النظر بهدف تقريب موقفي الطرفين بشأن القضية السورية".
هذه تعليمات الجبير، طبعاً. نفهم أن تشيح السعودية بنظرها عن الدعوة إلى "تعاون إيران والسعودية بشأن سوريا"، التي بعثها وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف من منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس. حيث أكد على أن "الحل العسكري في سوريا غير وارد ومستقبل الرئيس السوري بشار الأسد يقرره الشعب السوري". هناك حساسيات مع إيران.
ولكن لماذا جمدت المناورة السعودية وتجاهلت العرض الروسي، خلال فترة التحضير لـ"لقاء آستانة". بينما أظهرت تركيا مرونة ما في تحديد خطوط الإنسحاب في الأزمة السورية. مهد نظام أنقرة لهذا الإجراء من أواسط آب الماضي، حينما أعلن بن علي يلدريم "إن تركيا وإيران تعرفان جيدا كيف يمكن حل مشاكل المنطقة". ووعد بـ"تطبيع العلاقات" مع سوريا.
بعد يلدريم تابع ذلك نائب رئيس الوزراء التركي محمد شيمشك. إذ اعترف عشية "لقاء آستانة" بـ"أن الحقائق على الأرض في سوريا قد تغيرت كثيرا وبالتالي "لم يعد واقعيا أن تصر أنقرة على تسوية الصراع في سوريا بدون مشاركة بشار الأسد". وذلك خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس.
يحاول الجبير إخراج "النقاش السعودي" حول الـ Trumpisme / المرحلة "الترامبية" من نطاق الوساوس الشخصية، التي تقلق "أمراءه". خدم الجبير في واشنطن تحت إمرة بندر بن سلطان، وهو يظن أن الرئيس ترامب هو "بيزنس مان"، من أهم صفاته أنه ينسى أي خلافات، أو إهانات، مقابل "المصالح"، أي بإعطائه "حفنة من المال".
اختار الوزير الجبير ولوج المرحلة "الترامبية"، من باب تظهير حجم المصالح بين السعودية والولايات المتحدة. لذلك، حدد عدداً من الأهداف الدولية والإقليمية "المشتركة" : تغيير نظم الحكم في أربع دول عربية، وفي دولة إسلامية كبيرة. شن الحرب على الإرهاب. التحكم بالخريطة الجيوطاقية في العالم. دعم هيمنة أميركا على الإقتصاد العالمي.
محاولة الجبير ستفشل. فلكل مرحلة أدواتها، وأسلحتها. "لقاء آستانة" هو مرحلة. ألم يَرَ الوزير السعودي ومستشاريه، كيف أن الولايات المتحدة قبلت دعوة "الدول الضامنة" إلى "لقاء آستانة". خفضت مستوى التمثيل الأميركي لكنها حضرت. اختيار الرياض الجمود الديبلوماسي قبل "لقاء آستانة"، بانتظار تنصيب الرئيس الأميركي الجديد، حصاده مخيباً.
فلننظر في مضمون بيان الرئاسة المصرية عن الإتصال الهاتفي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. يقول : لقد "أشاد ترامب بالجهود المُقدّرة التي تبذلها مصر على صعيد مكافحة الإرهاب وأكد على قوة العلاقات المصرية الأميركية وما تتسم به من طابع استراتيجي". وأكد "حرصه على الدفع قدماً بالتعاون الثنائي".
الرسالة واضحة. إدارة دونالد ترامب اختارت بوابة القاهرة للإطلالة الأولى على الرأي العام العربي. ونأت عن الرياض. كان حضور وزير الخارجية الفرنسي إلى السعودية والمؤتمر الصحفي مع الجبير، مضحكة ديبلوماسية وسياسية، لم تشف حكام السعودية من حدة "الرسالة المصرية" التي بعثها ترامب إليهم. أولويتهم، حالياً، طلب الغفران من ترامب.
بعد المساهمة المالية السعودية الحمقاء في الحملة الإنتخابية لمنافسته لا بد للرياض من طلب الغفران. كل "دولة الجبير" بقلبها ولسانها ومالها، راهنت على المرشحة كلينتون. مثلاً، أحد "الأمراء الكبار" دسَّ 25 مليون دولار "في جيبها". لكنه أصدر "بيان اعتذار" من الفائز بعد إعلان النتائج. بانتظار الغفران من واشنطن، يتسلى السعوديون بـ"معلومات" عن الخلاف الروسي ـ الإيراني.
يقول الجبير بعد لقائه نظيره الفرنسي "نرحب بعودة أميركا للمنطقة وتقوية دورها". لم يقرأ في صفحة "لقاء آستانة" حرفاً. إنه سادر في ماضي "العمل المشترك". ديناميات النظام الدولي اختلفت من بعد سوريا. لكن ستاتيكية الخارجية السعودية على حالها. تنطوي "الترامبية" على ـ قدر من الـ ـ قطيعة مع هذا "الماضي"، لكن آل سعود متمسكين به. يخافون من المستقبل.
الشغف السعودي بالقوة الأميركية موروث بدوي. إنه عمى بصيرة قد لا يكون له دواء.
هيئة تحرير موقع الحقول
الأربعاء، 27 ربيع الثاني، 1438، الموافق 25 كانون الثاني، 2017