أثار “مشروع وثيقة الثوابت الإسلامية” نقاشا محدودا في الوسط الإسلامي السني في لبنان. فالأشخاص الذين عرضوا هذا “المشروع” وقفوا بعيدا عن الأضواء، لم يعلنوا أسماءهم الصريحة ولا ولاءاتهم السياسية، كما أنهم طمسوا على قناعاتهم الفكرية. هذا الغموض يؤكد وجود نوايا سياسية معينة لدى واضعي “المشروع”، تريد التأثير على موقع المسلمين السنة اللبنانيين في الصراع العربي ـ الصهيوني، وفي الصراع اللبناني ـ الصهيوني. هذا الحوار مع الباحث بشار قوتلي، يحاول أن يكشف خلفيات “مشروع وثيقة الثوابت الإسلامية”، وأسباب عرضها على “المجلس الشرعي الإسلامي” في هذه الفترة الحرجة من تاريخ لبنان، والعرب والمسلمين.
كيف ظهر “مشروع وثيقة الثوابت الإسلامية”؟
لقد عرضت في إجتماع لـ”المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى” في كانون الأول الماضي، حيث قدمها مجموعة من المتعاطين في الشأن الإسلامي، من موقع وأجواء الحكومة اللبنانية الحالية، لكي تشكل وثيقة مرجعية تحكم سقف الأداء السياسي للمسلمين السنة في لبنان. وقد وزع “مشروع الوثيقة” على كافة أعضاء المجلس.
كيف تصف “مشروع الوثيقة”؟!
نحن أمام مراجعة مجتزئة وانتقائية للتاريخ الحديث والمعاصر للمسلمين السنة في لبنان، خصوصا لمواقفهم من قضايا الهوية والإنتماء والمشروع السياسي الوطني والقومي. فـ”مشروع الوثيقة” يعيد كتابة هذا التاريخ، ويقوم بتأويله، بما يتلاءم مع الخيارات السياسية التي تسير فيها بعض الحكومات والقوى العربية التابعة للولايات المتحدة.
ما هي أبرز انتقاداتكم للنقاط الواردة في “مشروع وثيقة الثوابت الإسلامية”؟!
أولاً، في الشكل، نلاحظ وجود تناقض في العنوان، يستدعي سؤالا عما إذا كانت هذه الوثيقة إسلامية أم سنية؟!. فإذا كانت وثيقة إسلامية، فلماذا لم نر كلمة واحدة عن المذاهب الإسلامية الأخرى، وعن الوحدة الإسلامية. ثم إن كتّاب الوثيقة يزعمون أن السنة مستهدفون، بينما، في الحقيقة، فإن الإستهداف الفعلي، هو في المساعي العربية والأميركية الرامية الى تطويع جمهور المسلمين السنة اللبنانيين والعرب، وإلحاقهم بمتطلبات الموقع الأميركي وخططه وأدواته.
في الشكل ايضاً تتحدث الوثيقة عن استهداف الدولة، ولكن أي دولة. هل هي الدولة الطائفية؟! هناك تساؤل عن طبيعة هذه الوثيقة هل هي وثيقة إسلامية، أم أنها وثيقة وطنية. لأنها لو كانت وثيقة إسلامية، لتبينَّا فيها قضايا المسلمين والعالم الإسلامي، مثل شؤون التقريب بين المذاهب الإسلامية، أو الإجتهاد والتجديد الفقهي وخلاف ذلك من القضايا.
تقصد أن “مشروع الوثيقة” أعد وفق منهجية سياسية وعلمية معينة؟
بالضبط. فمن الممكن، بسهولة، أن نلاحظ أن كتاب “مشروع وثيقة الثوابت الإسلامية”، انطلقوا من إنتقائية واعية في اختيار أحداث سياسية واجتماعية وتاريخية معينة، وتجاهلوا أحداثا أخرى. وقد تم هذا الإختيار لغايات سياسية، من دون الإستناد الى الأعمال والكتابات التاريخية العلمية. هذا يكشف أن غرض أو وظيفة كتاب “مشروع الثوابت” الذي عرض على المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في لبنان، هو إعادة تعريف أو إعادة النظر بمواقف طائفة إسلامية بكاملها، هي الطائفة السنية، وتحميلها وزر رؤية تاريخية، وتحليل سياسي لوضع معين، قائم في ظرف سياسي محدد. وباختصار، فإن هذه الوثيقة تحل المتغيرات الطارئة والآنية محل الثوابت الراسخة والتاريخية.
هل يمكن شرح هذه الفكرة انطلاقا من مضمون “مشروع وثيقة الثوابت”؟
نلاحظ، أولاً، المبالغة في مسألة إنشاء الكيان اللبناني. حيث أغفل كتّاب الوثيقة التراتبية الطائفية التي قام عليها هذا الكيان في ظل الإحتلال الكولونيالي الفرنسي. علماً بأن التطورات اللاحقة أثبتت إستحالة فصل لبنان عن محيطه العربي كما كانت تريد بعض القوى الداخلية والإحتلال الفرنسي. وهذا ما تجاهلته “وثيقة الثوابت” حيث يكرر كتابها الخطاب الكنسي التاريخي عن “رسالة لبنان” في الشرق العربي وما إلى هناك من ترهات ونفاق تاريخي وثقافي.
ثانيا، بينما تتحدث الوثيقة عن “مؤتمر الساحل” عام 1936 بصيغة ملتبسة، لأن المؤتمر المذكور قد رفض فصل لبنان عن سوريا، أصلاً، نجدها أغفلت حدثاً مهماً هو “قمة عرمون الإسلامية” في العام 1975 التي حددت ثوابت وخيارات المسلمين في تلك المرحلة، وأهمها إدانة التيار الإنعزالي الموالي لإسرائيل، وإصلاح نظام الحكم الطائفي، ودعم المقاومة الفلسطينية. ولكن “وثيقة الثوابت” تتنكر تماماً لهذه الثوابت والخيارات، بحجة المراجعة النقدية الجذرية.
هذا التنكر نلحظه أيضا، في كلام كتاب “مشروع وثيقة الثوابت” عن الدعم العربي للبنان خلال السنتين الأخيرتين 2005 ـ 2007، إذ أن لبنان طيلة 50 عاماً حصل على دعم عربي من مصر والمملكة العربية السعودية وسوريا وليبيا، وحتى من المقاومة الفلسطينية.
ما المقصود من تركيز “وثيقة الثوابت” على قضايا التطرف والتكفير، وهل عالجتها بالشكل المطلوب؟!
كلا طبعاً، لأن مع شعار مكافحة التطرف والتكفير بالإعتدال، غير مجد من دون التمييز بين التكفير والمقاومة، وبين المقاومة والإرهاب، وبين حق الشعوب المضطهدة بالمقاومة، ورفض الإحتلال. كذلك، فإن ترداد مفاهيم الإعتدال والوسطية بشكل ببغائي، يتعارض مع حاجتنا الضرورية لاستنهاض حركة الإحياء الإسلامي والقومي، وهو ما يكفل إخراج مجتمعاتنا العربية من المأزق الراهن حيث أنها عالقة بين سندان التكفير، ومطرقة مؤسسات التقليد الديني.
هل ترفضون مبدأ الإعتدال والوسطية؟!
كلا، أبدا. ولكن ينبغي علينا أن نتوقف عند تعريف هذه المفاهيم والغاية المقصودة من طرحها. لأنها كما وردت في “وثيقة الثوابت الإسلامية”، وكما يرددها كتاب الخطاب السياسي الشائع، نلاحظ إخراج هذه المفاهيم عن سياق نشأتها التاريخي والديني، فتصبح الوسطية مجرد نقطة بين الإيمان والكفر، ويصير الإعتدال نقطة وسط بين الظالم والمظلوم، مثلما نرى الآن، موقف هؤلاء من القضية الفلسطينية.
ما هو تأثير “مشروع وثيقة الثوابت الإسلامية” على الرأي العام، بدءاً من المجلس الشرعي نفسه؟!
كان يراد لهذه الوثيقة أن تشكل سقفا سياسياً ومرجعياً لكل المشتغلين في الحقل العام من المسلمين السنة، من رؤساء الوزارة والوزراء والنواب الحاليين والسابقين مروراً بالموظفين ورجال الدين والبلديات والجمعيات الخ… لكن النقاش الذي أثير بشأنها في المجلس الشرعي وخارجه، منذ كانون الأول 2007 الماضي، لا بد أن يطلق ديناميات حيوية بين المسلمين السنة خاصة، واللبنانيين عامة، بشأن طبيعة الخيارات والثوابت التي ستقرر مصير المسلمين ومصير لبنان.
COMMENTS