غسان كنفاني ليس قديسا ولا أيقونة جامدة، كان ثائراً يكتب للحياة!

غسان كنفاني ليس قديسا ولا أيقونة جامدة، كان ثائراً يكتب للحياة!

التكنولوجيا وحرية الفرد : يراقبون نشاطك في الفضاء السبراني عبر بطارية الهاتف؟!
الحلف السري بين تركيا و داعش .. تفاصيل صادمة (تقرير من القاهرة)
الذاكرة .. صندوق من ذهب : الشاعر علي طحطح ينتقد “هذيان” الكاتبة نجوى زيدان

"وحين دخلت إليّ، خيِّل إليّ أنك آتٍ من غارك الخاص، وأن صوتا ما قد قال لك: "اقرأ"، فأرعبك في البدء، ولكنه وضع خطاك على أول الطريق" (غسان كنفاني – فضول طفل أم قدر رجل؟ – بيروت 1967).
                                                    *** *** *** 
بعد إثنين وعشرين عاما على استشهاد كنفاني، وتحديدا في عام 1994 شاءت الظروف أن أتولى مسؤولية رئيس تحرير مجلة الهدف التي أسسها كنفاني عام 1969، وبقيت في هذا الموقع حتى عام 1998، كم كانت ثقيلة وصعبة تلك المهمة… فليس عاديا أبدا أن تجد نفسك تقوم بذات المهمة التي قام بها غسان… لقد أتاح لي هذا الأمر أن أعيش في ما يشبه الفضاء الذي عاش فيه غسان… فشغلني بحياته وكتاباته، فرحت أقرأ وأفكر وأتأمل… وسارت الحياة وجرت في أنهارها مياه وأحداث كثيرة كما يقال، إلا أن سؤالا عميقا بقي يلح في العقل دائما: ماذا كان سيقول غسان يا ترى لو شاهد وسمع وقرأ كيف يتم الاحتفاء به منذ استشهاده حتى الآن؟.
أحيانا أتوقع أنه سينظر بعيدا وعميقا ويقول ساخرا: ما هذا الذي تفعلونه، أنا لست قديسا ولا أيقونة تُعلق على جدران الموت والذاكرة… ليس من أجل هذا كنت؟.. فكيف ولماذا حدث ذلك؟.
رغم مرور أربعة وأربعين حولا على تشظي جسد غسان كنفاني وجسد لميس ابنة شقيقته فايزة في 8 تموز 1972… أمام مكاتب مجلة "الهدف" في حي المزرعة في بيروت إلا أن هذا السؤال راح يستجر أسئلة أكثر عمقا: لماذا وكيف احتل غسان كل هذه المساحات في الوجدان الشعبي والثقافي الفلسطيني والعربي!؟. 
هل ذلك بسبب موهبته الأدبية والإبداعية في الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والفن التشكيلي!؟.
أم بسبب قدراته البحثية والصحفية في السياسة والتنظيم والظواهر الاجتماعية!؟.
أم أن ذلك يعود لدوره السياسي كعضو قيادي في تنظيم فلسطيني رئيسي هو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟ أم لأنه استشهد!؟.
كنقطة إنطلاق للتعامل مع هذه الأسئلة وما يتفرع عنها… سأثير سؤالا قد يبدو غريبا بعض الشئ… أو ليس له علاقة بكل هذا النقاش.. السؤال هو: ما الذي يا ترى كان يقصده غسان كنفاني بتلك الجملة الفلسفية الغريبة التي كتبها يوما: "قضية الموت… ليست على الإطلاق قضية الميت… إنها قضية الباقين"؟.. أرجو تذكر هذا السؤال، لأننا سنعود إليه في نهاية هذا المقال.
يتعامل البعض مع غسان وكأنه ظاهرة "غريبة"، تشبه نيزكا سطع في السماء وانطفأ سريعا تاركا أثرا يثير الدهشة.
هذه الأسئلة والفرضيات دفعتني لإعادة مقاربة ظاهرة كنفاني وتجربته في محاولة لوعي سياقاتها المنطقية والطبيعية… ذلك لأن أي كاتب أو مبدع ومع كل ما يملك من موهبة وثقافة ومعرفة وذكاء، يبقى في النهاية نتاج الدورة البيولوجية الأدبية الاجتماعية السياسية في الواقع المحدد، بمختلف أبعاده وملابساته وتناقضاته.
سأتوسع قليلا في هذه النقطة.. لأن وعيها وإدراك أبعادها المتفاعلة سيشكل الركيزة المنهجية الاجتماعية (السوسيولوجية) التي سأستند إليها في هذه المقاربة لتجربة كنفاني الإبداعية…
يقول كنفاني في روايته(عائد إلى حيفا): "الانسان في نهاية المطاف قضية… إننا حين نقف مع الإنسان فذلك شيء لا علاقة له بالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوازات السفر… هل تستطيع أن تفهم ذلك؟ (…) أليس الانسان هو ما يحقن فيه ساعة وراء ساعة ويوما وراء يوم وسنة وراء سنة؟". من المهم أن نتذكر هذه الفكرة ونحن نخوض في مفهوم السياقات ودورها في تكوين وعي الإنسان ومواقفه وخياراته. 
ليس هناك مثقف أو مبدع أو إنسان يولد من الفراغ.. ويعمل في الفراغ أو العدم … فكل مثقف هو ابن سياقاته، والسياقات بصورة عامة تتحرك ضمن ثلاثة مستويات متداخلة؛ السياق الشخصي بمعنى: الجنس، الأسرة، المحيط الاجتماعي المباشر، المدرسة، الدراسة، العمل، الحالة الاقتصادية… الأحداث اليومية… وغير ذلك من تفاصيل… وكل ما تحمله هذه المفاهيم من تأثير. المستوى الثاني: السياقات الاجتماعية الموضوعية، أي تلك المتكونة خارج إرادة الفرد وتشمل: المجتمع المحدد (الوطن بتفاصيله والناس)، مستوى تطوره، جذوره الحضارية والثقافية، عاداته وتقاليده ومعتقداته، الأحداث التاريخية، طموحاته، التحديات التي تواجهه، تركيبته الاجتماعية… والمستوى الثالث: البعد الإنساني العام الذي يتحرك في إطاره المستويين السابقين… بكل ما يحمله هذا المستوى من إيجابيات وسلبيات. 
بهذا المعنى لا يوجد مثقف في مرحلة أو زمن تاريخي محدد ومجتمع محدد خارج انتماء اجتماعي أو قومي أو وطني أو طبقي ما، يتحرك ويبدع خارج تأثيرات سياقاته المتداخلة… حتى وإن توهم أو اعتقد غير ذلك… حتى وإن اعتقد أنه متحرر من ذلك… بمعنى أن مضمون ما سينتجه أو يبدعه هو التعبير عن وعيه وخياراته ومواقفه تجاه الأسئلة الفلسفية والوجودية والسياسية والاجتماعية التي يواجهها في إطار تفاعله مع هذه السياقات وتفاصيلها… 
فحتى عالم الفيزياء أو الكيمياء في مختبره ليس خارج قيود وتأثير السياقات المحددة… بل إن العملية التعليمية برمتها هي في كل مرحلة تاريخية تعبر عن حاجة البنى الاجتماعية والسياسية الموضوعية في المجتمع المحدد… ما تحتاجه السوق مثلا وما تحتاجه البنى الفوقية من مهارات.. 
لتوضيح هذه المسألة يمكن تذكر اختراع الفرد نوبل للديناميت… فرغم أنه جاء في سياق عمل وبحث علمي صرف.. إلا أنه في النهاية تحول إلى ملكية عامة تستخدم في كل الاتجاهات (ولن يلغي ذلك كل جوائز نوبل للسلام وغيره).. ذات الشئ يمكن قوله بخصوص علوم الذرة أو اكتشافات الهندسة الوراثية وغير ذلك من علوم وآداب وفنون. 
بكلمات أخرى ليس هناك مثقف كوني (كوزموبوليتي) لا ينتمي لوطن ومجتمع وطبقة… قد تجري عملية تمويه أو مراوغة، أو قد يتحرك المثقف في لحظات معينة على تخوم البنى الاجتماعية لكنه في النهاية سيعبِّر عن مواقف ورؤية تعكس خياراته المختلفة بما في ذلك نزعته "الإنسانية العامة"… التي قد تعبر عن نفسها بلغة إنسانية وأخلاقية عامة، كأن يتخذ موقفا ضد الفقر وضد تدمير البيئة أو ضد الاحتلال… لكن السؤال هنا يبقى كيف يمكن أن يكون المثقف ضد كل ذلك ثقافيا ولا يتخذ موقفا واضحا من البنى والطبقات التي تسبب وتوِّلد ذلك…؟
هذا السؤال يفتح ويؤسس لنقاش مفهوم المثقف العضوي، أي المثقف الذي يغادر بوعي وبصورة حاسمة مساحات الثقافة والمواقف الملتبسة لينخرط في النضال من أجل تغيير البنى والنظم والطبقات التي تنتج الفقر والبطالة والاحتلال والاستغلال والظلم والقهر بكل تجلياته. 
لهذا تكون فئة المثقفين دائما عنوانا للتجاذب وفرض الهيمنة عليها من قبل بنى الدولة أو الأحزاب السياسية، حيث تبذل كل طبقة جهدها لخلق مثقفيها الذي سيحملون ويدافعون ويبررون رؤيتها ومواقفها وسياساتها أو كسب وجذب المثقفين ليتبنوا خياراتها.
هنا تجدر الملاحظة إلى أن الطبقة المهيمنة لا تلجأ دائما للهيمنة على فئة المثقفين بصورة مباشرة، ذلك لأن الطبقات تمارس كثيرا تلك الهيمنة بصورة معقدة ومموهة، أي عبر البنى الاجتماعية العامة؛ بنى الدولة مثلا (الدولة بما هي أداة سيطرة في يد طبقة على الطبقات الأخرى) جهاز ومناهج التعليم، القضاء، الإعلام… منظومة الحقوق وغير ذلك… هذا بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني. 
لهذا فإن الطبقات التي لا تملك السلطة تجد نفسها أمام ضرورة بناء مثقفيها من خلال أحزابها السياسية… بهذا المعنى فإن الحزب السياسي يشكل الحاضنة التي تؤمن البيئة والشروط لبناء المثقف الذي سيعبر عن مصالح وحقوق ورؤية البديل الاجتماعي – السياسي – الاقتصادي – والثقافي الطبقي لما هو قائم من اختلال وقهر وظلم واستغلال في الواقع… ولا يعني هذا أنه شرط مطلق بأن يكون المثقف عضوا في حزب سياسي.. فالمهم والحاسم هنا هو أن يتبنى المثقف خيارا اجتماعيا وطبقيا واضحا يعبر عن رؤيته ومواقفه وممارسته الثقافية الواضحة بثبات.
 سأكتفي بهذا القدر من التكثيف حول مفهوم السياقات وأهميتها ودورها.. بالتأكيد هذا المرور السريع لا يغطي أبعاد وتعقيدات مفهوم السياقات فهو أكثر تعقيدا وشمولية مما ورد أعلاه.. لكن ما تقدم يكفي كنقطة إنطلاق بحدود ما ستذهب إليه هذه المقالة بهدف وعي تجربة غسان كنفاني الإبداعية.
إذن، وعي تجربة أو ظاهرة غسان كنفاني بعمق، يحتاج التحرر من الأحكام والمقاربات التقديسية السطحية والبسيطة، والذهاب إلى سياقاتها، لفهم ووعي صيرورة وشروط وديناميات تشكلها وكشف أهميتها التي تتجاوز النصوص المحددة التي تحولت إلى ما يشبه الأيقونات أو الثيمات والتعاويذ… بل وحتى غسان نفسه تم تحويله إلى أيقونة، وكأننا فقط كنا بحاجة لأي كاتب موهوب يكتب نصوصا مصاغة بطريقة محكمة لنجعل منها أيقونات نحفظها غيبا… الأمر الذي يضرب في العمق القيمة والجوهر الحيوي لتجربة غسان كنفاني، وهو ما سأحاول توضيح خطورته في هذه المقالة.
تجربة غسان التي تطورت ونضجت، منذ ولادته وصولا إلى لحظة انفجاره وما بينهما، بقدر ما تبدو تجربة استثنائية إلا إنها تبقى تجربة واقعية بامتياز، تأسست ونضجت في سياق واقع ومعاناة ومقاومة شعب اقتلع من وطنه منذ سبعين عاما، قدم خلالها مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى، وبالتالي كان من الطبيعي جدا أن يرتقي التعبير عن هذه التراجيديا الفلسطينية ثقافيا وأدبيا لمستوى هذه الحالة العامة الممتدة في الزمان والمكان. بكلمات أخرى كان يجب وبالضرورة أن تعبر الحالة الفلسطينية المحتدمة عن نفسها أدبيا كما تعبر عن نفسها سياسيا واجتماعيا وثقافيا وسلوكيا في كل مرحلة من المراحل. 
ومع ذلك يبقى السؤال: لماذا لم يحتل العديد من المبدعين الفلسطينيين، الذين مر العديد منهم بذات الظروف، تلك المكانة العالية التي احتلها كنفاني ولا يزال في الوعي الجمعي الفلسطيني المباشر والمضمر، دون أي انتقاص بالطبع من دور هؤلاء المبدعين؟. 
Related image
أين يكمن "سر" إبداع كنفاني؟.
تكمن الخصوصية في تجربة كنفاني في ذلك التقاطع والتفاعل المدهش الذي حدث في لحظة تاريخية معينة بين مجموعة من الأبعاد التي أوصلت تجربة كنفاني لما وصلت إليه… تلك الأبعاد هي: التجرية الشخصية لغسان كفلسطيني اقتلع من أرضه ومدينته، حالة الاقتلاع الجمعي للشعب الفلسطيني بما ترتب على ذلك من معاناة ووعي وذاكرة جمعية ومقاومة جعلت المعاناة الشخصية تتموضع في سياق المعاناة العامة، امتلاك غسان ثقافة ومعرفة وموهبة جدية وعميقة وقدرة كتابية مذهلة أتاحت له وعي الأحداث والتعبير عنها بعمق وشمولية، وكل ذلك في سياق انخراطه الكامل في النضال السياسي الثوري بكل أثقاله وتحدياته والتباساته من موقع المسؤولية الأولى في تنظيم سياسي ثوري فلسطيني، الأمر الذي حول ونقل وعي المعاناة الشخصية والجمعية إلى وعي وممارسة سياسية كفاحية وأدبية/ثقافية شاملة…
حركة ودينامية هذه الأبعاد شكلت بمجملها البيئة والشروط الحاضنة لتجربة غسان الإبداعية والثقافية، فخلقت منه على الصعيدين الذاتي والموضوعي النموذج الساطع للمثقف الثوري العضوي وفق تعريف غرامشي… ذلك لأن اندماج غسان الفاعل في العمل الثوري هو الذي صقل وبلور وعيه وشحذ حدسه الأدبي في مرحلة مبكرة جدا بكثافة وسرعة قياسا بعمره… 
بكلمات أخرى، ما أعطى تجربة غسان خصوصيتها وتميزها ليس لأنه كان كاتبا موهوبا أو عبقريا فقط… (هناك الكثيرون الذين يعتبر إبداعهم الأدبي أو الثقافي من ناحية المعايير النقدية الأدبية أكثر تطورا بكثير من إبداعات كنفاني وأكثر نضوجا من حيث البنية والأسلوب…) بل لأن هذه الموهبة الأدبية والثقافية تموضعت بوضوح في سياق حركة المقاومة الفلسطينية بمعناها العميق والمباشر وليس العام فقط… بمعنى أن غسان لم يكتف بحدود دور المثقف الوطني بالمعنى العام، بل اندفع بشخصه وبكل طاقته الثورية في الفعل السياسي المقاوم المباشر.
هنا تكمن القيمة العميقة لتجربة كنفاني الأدبية والثقافية، أي في كونها ولدت من أعماق تجربته النضالية المباشرة في سياق التجربة الفلسطينية العامة، هكذا أبدع غسان في نصوصه وكتاباته في التعبير عن أعماق وروح وأبعاد الحالة الفلسطينية… حيث يمكن القول أن سر جماليات نصوص كنفاني الأدبية هو في كونها نجحت في التعبير عن الحالة الفلسطينية من داخلها بجمال وحيوية نابضة وصادقة… 
هذه المسألة التقطها محمود درويش بدقة حين قال " لقد تمكّن غسان كنفاني من أداء دوره، لأنه له دوراً، ولأنه مؤهّل، فنيّاً، للقيام بهذا الدور. كان نتاج رحلة العذاب الفلسطيني من السقوط المتمثل في وعاء المخيّم حتى الصعود المتمثل في واقعيّة البندقيّة.. لقد كان ثوريّاً من حيث هو كاتب ثوري. لم تُنتزع هذه الصفة من لحظة الاستشهاد… كان يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب. ولكنه كان يعرف أيضا ان قيمة هاتين المسألتين مشروطة، لانتاج الفن، باتقان تطبيق المسألة الاخري: كيف يكتب؟" (درويش – غزال يبشر بزلزال).
هذا الأمر لم يحدث عفويا واعتباطا، بل نضج عبر صيرورة صعبة وخيارات حاسمة أقدم عليها كنفاني في حياته القصيرة ولكن المدهشة إلى الحد الأقصى.
لقد واجه كنفاني الأسئلة والخيارات الكبرى في واقع قاس وصعب ومرير ودامٍ إلى أبعد الحدود… فكان عليه أن يختار وهو يعرف مسبقا أن لكل خيار أثمانه وأبعاده واستحقاقاته، كان على غسان في لحظة حاسمة أن يختار بين أن يواجه التناقضات والتحديات التي تعبر عن واقع ومقاومة الشعب الفلسطيني ويخوض فيها شخصيا، أو أن يكون مجرد مثقف يتابع ويتفاعل مع ما يجري من بعيد أو من قريب نسبيا بعض الشئ، كان عليه أن يختار بين أن يكون فاعلا ومشاركا عضويا في المقاومة بكل ما يترتب على ذلك من مخاطر وأثمان مباشرة… أو أن يتابع حياته ككاتب في سياقات الحياة الطبيعية هنا أو هناك، إذ من الصعب إن لم يكن مستحيلا وعي روح التجربة الفلسطينية بتشعباتها وتفاصيلها التي تمتد وتتناثر في الزمان والمكان ووعي انعكاساتها وما يرافق ذلك من ردود فعل فردية وجمعية من خارجها، لهذا كان على كنفاني أن يختار.. فاختار مصيره وقدره كمثقف ثوري ملتزم يقف في المستوى القيادي الأول لتنظيم فلسطيني كفاحي يقدم التضحيات في كل لحظة.
إذن منتوج غسان السياسي والاجتماعي والبحثي والفني والإدبي لم يكن نتاج مقاربات وجهود باحث ومثقف يجلس بهدوء في مكتبه أو في بيته أو في جامعته… وبالتالي لا يشغل باله سوى الالتزام بالموضوعية العلمية البحثية على أهميتها، أو كيف يطور من أدواته الكتابية ومشاريعه الأدبية في الرواية والقصة القصيرة أو المسرحية مثلا، أو العمل من أجل تطويع نصوصه والارتقاء بها لتستجيب لشروط ومعايير الفوز بالجوائز الأدبية، لقد حسم كنفاني هذه الإشكالية أو التناقض باكرا ولم يعد يفكر فيه بتاتا.
Related image
لقد ذهب غسان نحو خياراته الثورية القصوى، وبهذا ارتقت نصوصه تلقائيا لمستوى الخيارات الكبرى، فتحولت من نصوص وصفية وعظية إلى مشروع شامل يقاتل في ميادين المقاومة السياسية والكفاحية والثقافية والتنظيمية والإعلامية. لقد كان كنفاني النموذج الكثيف لتجربة "فصيلة" من المثقفين الفلسطينيين الذين عبروا عن الحالة الفلسطينية في ذروة صعودها وتألقها (على سبيل المثال لا الحصر: ناجي العلي، كمال ناصر، يوسف النجار ، كمال عدوان، معين بسيسو، محمود درويش، سميح القاسم، وغيرهم من فلسطينيين وعرب، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية وسياقات كل تجربة)… تلك هي الفصيلة التي كانت بمستوى التمثلات الكبرى والطموحات الكبرى للشعب الشعب الفلسطيني وتضحياته الباسلة. 
هنا يكمن سر تجربة كنفاني، وهنا تكمن قيمة إبداعاته الثقافية، ذلك لأنه أبدعها وهو يخوض في البراكين والزلازل. هذا المحدد يكشف الأهمية العميقة لدور وأبعاد وتأثيرات انتماء كنفاني لحركة القوميين العرب في البداية، ولاحقا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. البعض يرى في هذا الأمر عاملا سلبيا كونه لم يحرر كامل طاقة كنفاني، بينمكا في حقيقة الأمر وبكل واقعية هو الذي شكل البوتقة التي انصهرت فيها موهبة ووعي غسان وثقافته… حتى ولو ترتب على ذلك بعض التأثيرات الجانبية السلبية من منظار المعايير الأدبية التقنية والنقد الأدبي، لكنها تبقى أثمان الخيارات المحددة والصارمة.
في هذا الإطار تعمدت موهبة كنفاني وكتاباته بالنار فتفولذت وأخذت نبضها الذي أصبح معادلا لنبض شعب بكامله، هنا حيث واجه كنفاني كمثقف أسئلة الاقتلاع واللجوء في وعي وممارسة وحياة الجماعة الفلسطينية… هنا وقف بوضوح وبسالة أمام الأسئلة والتحديات التي يفرضها جدل الممارسة والوعي على المثقف الملتزم في تنظيم له إستراتيجية ورؤية وسياقات وبرامج عمل ميدانية… هنا حيث لا يمكن أن تكون الكتابة مجرد هواية وموهبة بل تصبح أداة فعل ومقاومة وحماية وبناء للوعي. 
هذه الشروط أو محددات الواقع شكلت الرافعة الحاسمة لتجربة غسان الأدبية المدهشة والمميزة التي لا تزال تحتفظ بحيويتها وحرارتها حتى اللحظة.
بكلمات أخرى لقد أنقذ انخراط غسان العضوي في العمل الثوري والسياسي تجربته الإبداعية من معضلة الكتابة المغتربة عن الواقع، لقد أنقذها ذلك من المواعظ الأخلاقية والرومانسية العامة للمثقفين الذين يتجولون على هوامش الفعل السياسي ويمارسون أحلامهم في الصالونات الأدبية، أو على أرصفة الأنظمة والسلطات السياسية (دون أن يعني هذا أي انتقاص من قيمة الدراسات والكتابات من خارج التجربة). 
لكل هذا جاءت كتابات غسان بكامل طيفها تعبيرا حيّا وعميقا يعكس الجدل بين وعيه وممارسته كمثقف ثوري وأسئلة وتحديات الواقع الفلسطيني المباشر، سواء على المستوى التكتيكي أو على المستوى الاستراتيجي، يشمل هذا حقول السياسة والتنظيم والإعلام والثقافة والمجتمع… ولكن للأسف لم يقرأ الكثيرون دراسات غسان السياسية والاجتماعية والثقافية، مع أنها لا تقل أهمية وروعة عن كتاباته الأدبية، بل وأكثر من ذلك لقد شكلت الإطار المرجعي لكتاباته الأدبية، حيث كان يجسد في شخوص رواياته وتناقضاتها وطموحاتها وهمومها ما يعيه من أسئلة وتناقضات في دراساته النظرية والسياسية.
لقد نجح غسان وببراعة في أن يكون جسر العبور الحي بين ما يكتب وما يجري في الواقع… بمعنى أنه كان يمارس فعل الكتابة والدراسة والتحليل والنقد في تجربة يخوضها مباشرة وليس عن تجربة يسمع عنها أو تجربة يراقبها ويتابعها من بعيد أو حتى من قريب نسبيا، إنه كالعاشق الذي يكتب مباشرة عن تجربته المحددة التي يعيشها وليس عن قصة حب يسمع عنها أو يراها دون أن يكون طرفا فيها. 
فغسان كعضو قيادي في تنظيم فلسطيني مقاتل كان يدرك أن ما يكتبه ويبدعه هو في بعض أبعاده جزء من مهامه ودوره المركزي المباشر والعميق في ذلك التنظيم، وهو دور لم يكن بحال من الأحوال عابرا أو مؤقتا أو هامشيا، بل كان محور حياته [تنويه: غسان هو من أبدع شعار (لوغو) الجبهة الشعبية، كما كتب العديد من وثائقها السياسية، ورسم العديد من بوستراتها، وهو الذي أسس مجلتها المركزية “الهدف” عام 1969 وبقي رئيس تحريرها حتى استشهاده، وكان يكتب بيده افتتاحيتها الأسبوعية التي تعتبر الموقف الرسمي للجبهة تجاه الأحداث الجارية، كما كان الناطق الرسمي باسم الجبهة].
بهذا المعنى فإن منتوج غسان الأدبي والسياسي يأتي في سياق تضحيات ومقاومة وآلام وآمال الشعب الفلسطيني من جانب، وفي سياق الدور والتضحيات التي تقدمها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي بقي كنفاني عضوا قياديا محوريا فيها حتى لحظة استشهاده، من جانب آخر. 
لقد عبر غرامشي عن هذه الجدلية العميقة حول دور الحزب في بناء هذا النوع من المثقفين العضويين بقوله "ليس الحزب السياسي بالنسبة لبعض الجماعات الاجتماعية إلا طريقتها الخاصة في تكوين وتطوير فئة مثقفيها العضويين في الحقل السياسي والفلسفي مباشرة، وليس في حقل تكنيك الانتاج وحده. هكذا يتكون هؤلاء المثقفون، ولا يمكن أن يتكونوا بطريقة أخرى، مع أخذ الطابع العام للجماعة الاجتماعية، وشروط تكوينها، وحياتها، وتطورها في الاعتبار" (غرامشي – كراسات السجن – 1994 – دار المستقبل العربي – القاهرة – ص 31).
يمكن إدراك هذه المعادلة في الحالة الفلسطينية إذا ما أخذنا الجماعة الفلسطينية كحالة نضالية (وخاصة المخيم الفلسطيني كمعادل للجوء الجماعي وتكثيف لتراجديا الشعب الفلسطيني) وليس مجرد جماعة إنتاجية وفق مقاربة غرامشي، حيث يتركز دور الحزب الثوري في الحالة الفلسطينية على قيادة وتنظيم نضالات الشعب من أجل التحرر الوطني من الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي.. وبالتالي يعتبر التنظيم السياسي بالنسبة للجماهير الفلسطينية هو "الطريقة الخاصة في تكوين فئة مثقفيها العضويين في الحقل السياسي" وفق الفهم الغرامشي.
إذن، لقد وفر اندماج غسان كنفاني العضوي في التجربة المشار إليها الفرصة لرؤية الثغرات والأخطاء والقصور من داخل التجربة، وفي ذات الوقت رؤية البطولة الفردية والجمعية، الأمر الذي أتاح له دائرة تفاعل واسعة.
هذه الحقيقة المعاشة كانت تدفع كنفاني موضوعيا وذاتيا إلى البحث والتفكير في الطريقة والأدوات والوسائل واستراتيجيات العمل التي ستضاعف وتعمق المقاومة لتجعل منها مشروعا أكثر جدوى على طريق تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى للشعب الفلسطيني، كل هذا كان ينعكس تلقائيا في نصوصه الأدبية الروائية والقصصية والمسرحية وغيرها. بمعنى أن كنفاني المناضل السياسي هو الذي أعطى مصداقية لكنفاني المثقف، فيما كنفاني المبدع والمثقف الثوري حرر نصوصه السياسية من الدوغما والجمود واللغة المعلبة فأعطاها عمقا حيويا مؤثرا وفاعلا. 
Related image
وهذا يعتبر أمرا طبيعيا ومنطقيا تماما، لأن غسان في كل فاعليته السياسية والتنظيمية والأدبية كان يعيش المسؤولية المباشرة عن الإنجازات والأخفاقات، فهو مساهم حيوي في اتخاذ القرارات وتحديد البرامج وقيادة المقاومة، وبالتالي كان يعي بالتجربة طبيعة التناقضات ويلمس مباشرة السلبيات في الرؤية والممارسة سواء على صعيد تجربة الجبهة الشعبية بشكل خاص أو على صعيد المقاومة الفلسطينية على وجه العموم. كما كان يعي أيضا وبعمق تلك الجوانب والظواهر البنيوية التي لا تتوقف عند حدود وعي الأفراد أو حتى التنظيم، بل تتعلق بالبنى الموضوعية والشروط التي تتحرك في مجالها التجربة الثورية، وقد عبر عن ذلك بعمق وكثافة في دراساته السياسية والاجتماعية: ثورة 36، المقاومة ومعضلاتها، اللغة العمياء، المسألة القومية، في الأدب الصهيوني، أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 -1968 .
في هذا السياق بالضبط يأتي ويتجلى الإبداع في ممارسة غسان كنفاني الثقافية والسياسية، حيث نجح وبامتياز في التعامل مع تلك المعادلات الملتبسة والمركبة والمتداخلة دون أن يفقد قدرته على العطاء وبأعلى طاقة تتيحها شروط الواقع وتحدياته الصعبة، والأهم أنه نجح في الحفاظ على تلك المسافة الباهرة ما بين التزامه الحزبي السياسي والفكري العميق وبين حريته كمثقف فلسطيني ملتزم كان يعي بأن دوره يتجاوز دوائر القيود الحزبية الضيقة. 
هذا يعني أن كنفاني حين كان يواجه التناقض بين المواقف والممارسات اليومية الحزبية وبين طموحات وحقوق وتضحيات الفلسطينيين وجوهر قضيتهم فإنه كمثقف ثوري كان ينحاز لفلسطين، فالحزب بالنسبة له ليس مقدسا أو هدفا بحد ذاته، بل مجرد وسيلة وأداة لتحقيق الأهداف الوطنية، لهذا لم يكن يتردد في تقديم مقارباته النقدية العميقة في مختلف المستويات وحقول العمل وهو ما انعكس بوضوح في كتاباته الأدبية والسياسية، لقد كان ملتزما وبقوة بفكرة حنظلة صديقه ناجي العلي الذي كان يعلن دون أي التباس: إن شخصية حنظلة كالبوصلة بالنسبة إلي وهذه البوصلة تشير دائماً إلى فلسطين. 
إذن ليس غريبا أن لا يذهب غسان كنفاني في كتاباته الأدبية والسياسية إلى تقديس الأشخاص والظواهر أو الأطر التنظيمية، بل كان يتعامل معها كفضاء وبنى حية تحمل في داخلها تناقضاتها، ومع كل ذلك لم يفقد ثقته والتزامه بها واحترامه لها، لأنه يعي عميقا دور ووظيفة الحزب باعتباره أرقى أشكال الانتظام من أجل تحقيق الأهداف الكبرى للشعب، لقد كانت قضية فلسطين وشعب فلسطين هما المقدس الوحيد في حياته. 
أدرك غسان كل هذه الالتباسات والتداخلات، كما أدرك في ذات الوقت خطورة التناقضات والسلبيات التي قد تهبط بدور الحزب ووظيفته العميقة، لهذا لم يتخل لحظة عن جرأته النقدية في مواجهة السلبيات التي يواجهها ويراها ويصطدم بها كل يوم، فهو بقدر ما كان ناقدا سياسيا واجتماعيا وثقافيا في نصوصه الأدبية، فقد كان أيضا ناقدا أدبيا وثقافيا في كتاباته السياسية. هنا يكمن في تقديري أحد "أسرار" نجاح كنفاني، بمعنى أنه وهو يتفاعل ويحلل ويكتب حول التجربة الوطنية وتجربة المقاومة بشكل عام، فإنه في ذات الوقت كان ينتقد ويكشف سلبيات وإخفاقات تلك التجربة حتى على مستوى ممارسته الشخصية وممارسة التنظيم الذي ينتمي إليه بصورة مباشرة… حيث لم يتوقف غسان السياسي والقائد الثوري لحظة عن الجدل مع غسان المثقف الثوري ونقده، لهذا اتخذت نصوصه طابع التأكيد على الأبعاد العميقة للقضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية.. والتركيز على تحليل ووعي طموحات وأهداف الفلسطيني كفرد حينا وكشعب صاحب قضية نبيلة في كل الأحوال. 
إذن، لقد تجاوز غسان تلك الإشكالية المتمثلة بالتباس المستوى السياسي وأحيانا فشله أو قصوره تحت ضغط الواقع حينا وتحت قيود واشتراطات البنى الموضوعية كثيرا، وبالتالي العجز عن وعي أعماق تلك البنى ومعالجتها، لقد أدرك هذه الخافية وتعامل مع معادلاتها ببراعة وذكاء، فكان يقرأ بعلمية عميقة أبعاد الصراع والتناقضات، ثم يحول وعيه هذا إلى ممارسة سياسية وثقافية تعبر عن نفسها بوضوح في المستويات القيادية أو في الأدوار والمسؤوليات التي كان يتولاها، فهو لم يتخل يوما عن التفاعل مع جدل الوعي والممارسة والواقع أبدا… بمعنى أنه وأثناء تعامله مع أسئلة وتناقضات الواقع السياسي والنضالي اليومي، كان يقوم بذلك في سياق العمل والتجربة مباشرة وليس كتعبير عن ترف كاتب متفرغ للكتابة في بيته أو في حديقة منزله أو في جامعته كما أشرت سابقا. 
هذه الصيرورات المتحركة والمتشابكة في تجربة كنفاني ارتقت بما يكتبه من أدب ودراسات وتحليل ومقالات إعلامية بصورة مدهشة، لأنه كان يبدعها وهو يخوض في ميادين المقاومة بعيدا عن ترف الهدوء، لقد كان يكتب وهو يحمل البندقية سواء بالمعنى المباشر أو بالمعنى الضمني كعضو في المكتب السياسي ومسؤول إعلامي وناطق رسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بهذا المعنى بالضبط تتجلى خصوصية تجربة كنفاني، فهو لم يكن يكتب من خارج الظاهرة بل من قلب نارها الحارقة بكل مستوياتها. 
ولأنه كان يدرك ذلك من حيث التزامه الحزبي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن حيث رؤيته السياسية والفكرية للصراع، فإنه كان يتصرف انطلاقا من بديهة حاسمة وهي أنه يناضل من أجل مشروع وطني له تجلياته الثقافية، وهو ما انعكس بعمق في نصوصه الإبداعية وشخوص رواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة، حيث تنحاز تلك النصوص دائما وبصورة حاسمة لقضية الشعب الفلسطيني التي يحمل أعباءها الفلسطيني العادي، البسيط، الكادح، ابن المخيم… مما يفسر البعد والعمق الطبقي في نصوص غسان الأدبية.. إنه بهذا قدم وكشف بصورة مدهشة أبعاد البطل الفلسطيني العادي.. الشعب والناس البسطاء.
لكل هذا لم يكن غريبا أبدا أن يكون كنفاني في بؤرة التهديف والتصويب، فهو يمثل مشروعا سياسيا ثوريا وطنيا عميقا، ليس كمجرد فكرة خيالية عند كاتب يراقب من بعيد، بل من خلال الانخراط في العمل الثوري المنظم. هنا تتجلى خطورة غسان كنفاني، وقد كان يدرك بحدسه ووعيه تماما هذا الأمر، لهذا كان يتصرف وباستمرار باعتباره مشروع شهيد بالمعنى الواقعي والفعلي وليس المجازي، ومع ذلك لم يتردد ولم يرتجف ولم يساوم على فكرته وموقفه والتزامه وانتمائه حتى آخر لحظة. 
هذه الحقيقة جعلته في حالة سباق مع ذاته… سباق مع الزمن… سباق مع الموت، سواء كان هذا الموت بفعل مرضه المبكر بالسكري، أو لأنه تلقائيا يشكل هدفا لانتقام العدو، لكنه وهو يقوم بذلك كان يطلق عشقه للحياة إلى مداه الأقصى، فمشروعه الثقافي والسياسي هو في الأصل مشروع حياة، إنه لم يذهب للموت، لكنه كان يفترض أنه سيكون هدفا لذلك، ولكن ليس لسبب شخصي وإنما كتعبير عن حالة المواجهة الطاحنة مع عدو لا يرحم. 
ومع ذلك لم يكن غسان يكتب من أجل أن يبرهن على كتاباته ومشروعه السياسي الثقافي الاجتماعي بموته، بل كانت المعادلة، وكما يعيها، هي أن مشروعه السياسي والثقافي التحرري هو في جوهره مشروع حياة وحرية، وإذا اقتضت الضرورة أن يعطي حياته من أجل ذلك فليكن، لكنه لم يكن يسعَ لذلك. بهذا المعنى بالضبط يقول محمود درويش "هنالك من يعتبر الحياة اتهاماً وخيانة، فيُثني الكتابة عن فعاليّتها لأنّ الحريّة لا تأتي بغير الموت!.. ومن هنا، يتحوّل الموت لدى هؤلاء إلى هدف في حدّ ذاته. "أنتَ متّهم إلى أن تثبت موتك". داءٌ شاع في حياتنا الفلسطينية. فاتّخذ الفاشلون فينا جثث الشهداء متاريس وخنادق وقاعات محاكم. أطلقوا النار على الذات مرّة، وانتظروا رصاصَ الأعداء، مرّة أخرى، ليكون معيارَ الجدارة. هذا الطراز ذاته من النظر إلى الحركة وإلى الأشياء يحوّل جثة غسان كنفاني إلى قاعدة لاغتيال الكتابة. وهي، بذلك تجرّد كاتبنا الكبير من أية قيمة خلاّقة عدا الموت، غسان كنفاني هو كاتب الحياة. كان يكتب لأنه يحيا. وكان يحيا لأنه يكتب ويُحيي ذاكرة الماضي الفلسطيني لتكون مكانة المستقبل. لم يكن الموتُ هدفه لأنه لم يكن عاجزاً عن الحياة في الكتابة، ولأنه لم يكن بعيداً عن حركة الفعل الفلسطيني الثوري التي تبلور حياتها في الصراع…. " (من نص غزال يبشر بزلزال).
بعد أن توضحت الفكرة الأساسية في هذه المقاربة، بالإمكان الآن (ودون أن يساء الفهم) تسجيل أختلافي مع من يرون أن استشهاد كنفاني هو الذي أعطى له ولكتاباته قيمة، على العكس من ذلك تماما، إن الأدوار السياسية والإعلامية والمسؤوليات القيادية التي لعبها كنفاني في حركة القوميين العرب أولا ثم في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ثانيا هي التي أسست السياقات لتجربته الفريدة وخاصة في مستواها الإبداعي والثقافي مما أعطى لاستشهاده أبعادا أخرى أكثر عمقا.
بمعنى أن السبب الذي جعل غسان كنفاني هدفا ملحا للاغتيال هو خطورة النموذج الذي يقدمه كمثقف ثوري عضوي في حزب سياسي وهو ما يشير إليه محمود درويش بدقة" فقد اغتاله الأعداء لأنه حمل فاعلية الكتابة التي تصنع جيلاً سيعثر على أداة التعبير عن فاعليته في السلاح". 
هذا يعني أن ما أبدعه غسان هو فعل يأتي في سياق مشروع تجري صياغته وترجمته بالممارسة السياسية والثقافية والاجتماعية والتنظيمية والإعلامية، الأمر الذي يؤسس لوعي جماعي سيتحول إلى قوة ثقافية وسياسية وكفاحية مجسدة ومنظمة. 
Image result for ‫غسان كنفاني جدارية مدخل‬‎
لهذا كان يجب كسر هذا النموذج ووقف هذه الدينامية التي كانت تمهد وتؤسس لولادة أجيال من المثقفين الثوريين العضويين في الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية، والعمل بدأب لدفع هؤلاء المثقفين إلى هوامش وأرصفة التجربة بهدف أفقادها عمقها وأبعادها الثقافية الخلاقة أو تجويفهم، لكي تبقى التجربة والممارسة السياسية الفلسطينية تحت رحمة المستوى السياسي الفاقد للعمق الثقافي الثوري. 
في سياق وعي هذه الفكرة يمكن الآن إعادة قراءة بعض نصوص كنفاني بصورة مغايرة، على سبيل المثال لا الحصر: "لا تمت إلا بعد أن تكون ندا"، فما كان لهذه العبارة أن تأخذ كل هذا التأثير لو لم يكن كنفاني في حياته وفي ممارسته اليومية يلعب دور الند، وهو هنا يشير إلى رفضه فكرة الموت المجاني، وأيضا مقولته: "خيمة عن خيمة تفرق"أو "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟" أو "ليس المهم أن يموت الانسان قبل أن يحقق فكرته النبيلة، بل المهم أن يجد لنفسه فكرة نبيلة قبل أن يموت"أو "عندما يفشل المدافعون عن القضية علينا تغيير المدافعين وليس القضية" وغيرها الكثير جدا… هذه المقولات لم تكن مجرد نبت خيال كاتب يعيش على هامش الأحداث، بل كانت أسئلة ومقولات تؤشر إلى خيارات سياسية وعملية مضى فيها كنفاني حتى النهاية، ولكن من على قاعدة خياره الواضح لفكرة الحياة والحرية، لهذا فإننا حين نقرؤها نشعر بذلك الدفق الحار، لأننا نعرف ونشعر أن من قالها كان في ميادين المواجهة، الأمر الذي يعطي لكل كلمة من كلماته مهما كانت بسيطة أو عادية مصداقية مباشرة.
لقد أخذت كتابات كنفاني هذه الحرارة والروعة لأنه وحسب قول درويش " نقل الحبر إلى مرتبة الشرف، وأعطاه قيمة الدم".. ولكن من على قاعدة الإلحاح على فكرة النضال كقيمة معادلة للحياة الحرة وليس من أجل الشهادة، فسؤال كنفاني "لماذا لم تدقوا جدران الخزان" يذهب لسؤال أكثر خطورة: لماذا هذا الموت المجاني والعبثي؟. لماذا لم تناضلوا أيها الفلسطينيون من أجل الحياة، هذا هو جوهر فكرة كنفاني وركيزة مقاربته.
لم تكن هذه الفكرة التي يلح عليها كنفاني عابرة في وعيه وممارسته،حتى بعد استشهاده، فقد صاغها بدقة مذهلة بما يشبه النبوءة حين كتب: "هنالك رجال ينبتون الآن في أرض المسؤولية كما ينبت الشجر في الأرض الطيبة حريصون على إعادة المجد للكلمة"… وكأني به في هذا القول الكثيف يشير إلى خياره العالي، خيار الحياة والمقاومة، ولكن مع الاستعداد للتضحية عند الضرورة، ولكن الأساس هو الحياة. إذن بإعادة قراءة النص سنجد أنفسنا أمام البديهة الحاسمة التالية: ليست هي الكلمات التي تعطي للرجال قيمتهم.. بل خيارات الرجال ووعيهم ومواقفهم وممارستهم أمام التحديات الكبرى هو ما يعطي للكلمات مجدها.
هذه المقاربة في إعادة وعي الجوهر العميق لتجربة غسان كنفاني الإبداعي تطرح وبقوة إشكالية المثقف في الحالة الفلسطينية، حيث تعرض دور هذا المثقف منذ ما يسمى عملية السلام، بل وربما أبعد من ذلك، إلى عملية تجويف ومصادرة وتسطيح، وخاصة على صعيد الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية، التي تبدو عاجزة اليوم عن بناء مثقفيها الثوريين العضويين، بل وتحولت إلى قوى طاردة لهذه الفئة الحيوية الحاسمة لأي ثورة. 
كل ما تقدم يقود إلى المسألة الحاسمة التي تشكل الهدف من وراء كل هذا النقاش والتحليل؛ والذي يتمثل بضرورة وعي شروط وسياقات بناء المثقف الثوري الفلسطيني العضوي، كشرط لمغادرة دوائر ردود الفعل وحالة العجز أو الإخفاق التي تواجه الثقافة والمثقف والحزب السياسي الفلسطيني اليوم… ذلك "لأن الفن الرديء الذي يروّج له الصغار في حياتنا الآن، تحت أي شعار كان، لا يقلّ ضرراً عن السلاح الرديء" (درويش).
خلاصة القول لن يجدي أحد نفعا تحويل كنفاني (أو سواه من المثقفين الثوريين الفلسطينيين الذين رحلوا) إلى أيقونات، أو الاكتفاء بتقديس كتاباتهم والتفاخر بدورهم الذي كان، ( هذا لا يعني عدم الاحتفاء بهم وبتجاربهم وإنتاجهم كمهمة وطنية وثقافية)، غير أن هذا الاحتفاء سيتحول إلى معضلة جدية حين يتم الاتكاء عليه لإخفاء المعضلة البنيوية التي تعصف بالتنظيم السياسي الفلسطيني وعجزه عن بناء المثقف الثوري العضوي، ذلك لأن السؤال الأساس يبقى ملحا: كيف يؤسس التنظيم أو الحزب السياسي الفلسطيني ويوفر البنى والشروط لبناء المثقف الثوري العضوي، بما يجعل من تجربة فذة وهائلة لمثقف كغسان كنفاني وغيره من المثقفين والمبدعين الفلسطينيين نموذجا حيا وفاعلا لولادة المزيد من المثقفين الفلسطينيين الثوريين.
هذه الإشكالية ربما هي التي تكشف الفلسفة العميقة التي تحملها جملة غسان الغريبة التي أشرت لها في بداية هذا المقال: "قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت… إنها قضية الباقين"… وكأني بغسان كان يتنبأ أو يعي مسبقا خطورة تحويله إلى أيقونة مقدسة على جدران الذاكرة، بينما تكمن وتتجلى روعة تجربته وإبداعاته المذهلة في فترة زمنية قصيرة في النموذج والمشروع الثقافي الذي مثله كمثقف ثوري فاعل ومبادر في سياق الحياة والتمثلات الكبرى للنضال الوطني التحرري الفلسطيني والعربي… هذا هو التحدي!
نصَّار إبراهيم، كاتب ومفكر عربي من فلسطين المحتلة
نشر هذا النص على صفحة الكاتب "الفايسبوكية " يوم السبت 8 تموز / يوليو 2017، وهو مؤرخ في تموز 2016 

Please follow and like us: