إنجازات هائلة حققها الوزراء في الحكومة اللبنانية الجديدة، من تغيير زريعة إلى إزالة كتل اسمنتية كنا قد تآلفنا مع وجودها، إلى وصول وزير آخر إلى مكتبه سالماً غانماً، إلى اعتبار وزيرة أن توزيرها كان هدية لها في عيد ميلادها… البارز والممكن الوحيد هو ما أعلن عنه من خفض لفاتورة الدواء في لبنان، وهي للمناسبة ليست إلا رتوش بسيط لا يروي ظمآن…
أيام قليلة ليست كافية للحكم على أداء أي حكومة في العالم… علماً أن المكتوب يقرأ من عنوانه، لكن استباقياً لنتحدث عما يمكن تسميته إنجازات وما هو دون ذلك عبارة عن ترهات:
1 – منذ تسعينيات القرن الماضي، تعرض لبنان لأكبر عملية نهب منظم في التاريخ، ليست "سوليدير" التي أفقرت وسلبت الآلاف أرزاقهم وعقاراتهم، بل القطاع المصرفي الذي تحت ذريعة إعادة الإعمار، والذي مول الحكومة عام 1992 بما لا يزيد عن 195 مليون دولار، وفي العام اللاحق 3.7 مليارات دولار، ولم يكن يتعدى حجم الدين العام 159 مليون دولار، بدأ لبنان مسلسل الاقتراض غير المجدي، بمعنى أن معظم الأموال المقترضة كانت تودع في المصرف المركزي، بفائدة وصلت إلى 48 في المئة سنوياً، أي أن من يضع 100 ألف دولار كان يحصل في نهاية العام ما يزيد عن 40 ألف دولار، هذه العملية كانت نهباً منظماً، راكمت ديوناً وفوائد ديون أصبحت تراكم هذه الفوائد فوائد عليها، ما رفع حجم الدين إلى مستويات هائلة اليوم، ما كبد لبنان طيلة تلك السنوات 77 مليار دولار كخدمة دين. هذه العملية عظمت رأسمال المصارف 100 مرة منذ عام 1993، وهنا بيت القصيد.
على أي حكومة إذا كانت جادة في كلامها عن إصلاحات أن تضع حداً لهذا النموذج، بتدفيع المصارف ضرائب استثنائية على الأرباح تصل إلى 40 و50 في المئة خلال السنوات المقبلة (خطة لمدة 5 أو 10 سنوات) هذا يعني أن المصارف تصبح شريكة في العبء الاجتماعي، ما يعني أنه يجب إصلاح البنية الضريبية، لأن المصارف تحصل على ما يصل إلى 80% من أموال الضرائب، وهي بمعظمها ضرائب غير مباشرة وعلى الاستهلاك. أي كلام عن إصلاح ضريبي في الحكومة دون ذلك هو محض هراء.
2 – تركز الثروة في لبنان هو ثالث أعلى معدل عالمي، لجهة تركز الثروة والدخل: 1% يملكون أربعين في المئة من الثروة و25% من الدخل. هذا الواقع عبارة عن خلل اجتماعي صارخ، الإجراءات الضريبية تركز هذا الخلل، تشطير الضريبة التصاعدية على الفوائد المصرفية ورفعها إلى 15% ما يؤمن 800 مليون دولار إضافية للدولة. بالإضافة إلى تشطير الضرائب على الدخل والأرباح الرأسمالية باتجاه تصاعدي لتصل إلى 30% على الشطور العليا. أي إجراء حكومي دون ذلك هو تأبيد للخلل القائم.
3 – خفض الإنفاق الحكومي على الصناديق وإقفالها (الجنوب والمهجرين وغيره) وإلغاء التعليم الخاص المجاني، وهو يكبد الموازنة أكلافاً ضخمة لو استخدمت لتحديث وزيادة عديد الأساتذة لحصلت نقلة نوعية في التعليم الرسمي (علماً أن نسبة الأساتذة في القطاع الرسمي هي من الأدنى عالمياً) وهذا يمكن من توفير تعليم نوعي يضاهي ويتفوق على التعليم الخاص، علماً أن الأساتذة المتعاقدين في التعليم الرسمي هم أنفسهم من يعمل في المؤسسات الخاصة، ويمتلكون المهارات ذاتها. بالإضافة إلى إلغاء المنح للموظفين والأساتذة في القطاع العام لتعليم أولادهم في القطاع الخاص. أي كلام حكومي عن إصلاح النظام التعليمي دون ذلك عبارة عن إمعان في ضرب التعليم الوطني والعام.
4 – وقف الإعفاءات الضريبية للأعمال وللريوع العقارية المحققة للأوقاف الدينية، وهي تحقق أرباح هائلة نتيجة هذه العقارات وهذه الإعفاءات تمنع هذه المؤسسات من القيام بدورها الاجتماعي، وهي يجب أن تطالب وتدعو إلى تطبيق الضرائب عليها كي تكون مساهمة وشريكة (كما تدعو كل الديانات السماوية) في مساعدة الفقراء والمحتاجين.
5 – مراجعة بنية الأجور في وظائف الدرجتين الأولى والثانية في القطاع العام والمصالح المستقلة، وهذا يعني أن يتم تحديد سقوف لها (وخفضها إلى ما دون هذه السقوف) بالإضافة إلى وضع سقف لتعويضات نهاية الخدمة لهذه الفئات، أي كلام حكومي عن إصلاح إداري دون هذه الخطوة يعتبر غير مجدٍ، ويشكل خطراً على الصناديق الضامنة التي قد تعاني من عجوزات هائلة نتيجة تعويضات خيالية يحصل عليها هؤلاء الموظفين تصل إلى ملايين الدولارات.
6 – هذه الخطوات تؤمن وفورات مالية ضخمة، يتوجب إنفاقها على تحديث البنى التحتية:
قطاع الكهرباء يكبد الدولة 800 مليون دولار سنوياً، بينما إجراء إصلاح شامل وبناء معامل جديدة ومد خطوط نقل على كامل الجغرافيا اللبنانية لا يكلف أكثر من 4 مليارات دولار، هذا يعني أن إصلاح فاتورة الكهرباء (لناحية الأسعار والضرائب وغيرها من الأمور) وإصلاح البنية التحتية للكهرباء، ستبدأ في تحقيق وفورات جيدة تصل إلى 400 مليون دولار سنوياً، فضلا عن أن الواقع القائم يكبد لبنان (خروج أكثر من 1.5 مليار دولار) على شكل أموال بالعملات الأجنبية، نتيجة القطاع غير المنظم للمولدات، إصلاح الكهرباء وتوفيرها، يوفر على المواطنين أكثر من 2.5 مليار دولار سنوياً، ويمنع خروج أموال دولارية بقيمة مليار دولار تقريباً، وهذا بحد ذاته مكسب اقتصادي هام للبنان وللموازنة وللبنانيين. أي حديث حكومي عن إصلاح قطاع الطاقة من دون هذه الخطوة يعتبر تمييعاً للمسألة الأساس، وكلام رقمي عن أكلاف ستتكبدها المؤسسة بشكل إضافي، من دون احتسابها من إجمالي الإنفاق العام للبلاد على الطاقة. وهي عملية تعمية مقصودة.
ملاحظة: انتشر مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي صورة لرواتب النواب والوزراء السابقين وأنهم يكلفون الميزانية 30 مليون دولار سنوياً بشكل تقريبي، الظن بأن بدء الإصلاح من هذه النقطة غير دقيق بالمرة وهو محض وهم. بالأساس القانوني؛ تعتبر هذه الرواتب للنواب السابقين وعائلاتهم حصانة للنواب كي يقوموا بواجبهم تجاه الأمة من دون الخضوع لضغوط مرحلية أو تتعلق بمستقبل أطفالهم وبالتالي قيامهم بمقايضة الحق العام بمصالحهم الشخصية، جميعنا يعلم اليوم ومن دون مواربة أن هذا لم ولا يحصل، وهذا يستوجب وقف جميع هذه الأجور بشكل نهائي. علماً أنها تعتبر زهيدة أمام مكامن الهدر والفساد الأخرى، لكن لا مشكلة في اتخاذ هكذا خطوة لأنها تدفع من أموال الشعب الذي تعرض لخديعة كبرى خلال أكثر من ربع قرن، ساهم بها معظم هؤلاء النواب والوزراء.
ملاحظة أخيرة: هذه الخطوات لم تعد ترفاً، ولا ضرباً من المستحيل. بل ضرورة آنية لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية التي تزداد شراسة في لبنان. علماً أنها طروحات إصلاحية وليست حلولاً جذرية أو أفكاراً راديكالية، إنها ببساطة ضرورة كي لا يسقط الهيكل علينا جميعاً.
أيمن فاضل، النص منشور على صفحته في موقع فايسبوك، يوم 6 شباط 2019
محرر الحقول : أضفنا العنوان على النص لتسهيل النشر.