أصبحت حرب إدلب التي يخوضها الجيش العربي السوري وحلفائه، ضد جيش الإحتلال التركي وميليشيات المرتزقة التابعة له، نموذجاً للعمل العسكري الذي يتكامل مع العمل السياسي ـ الديبلوماسي. فنتائج هذه الحرب، لا سيما معركة تحرير مدينة سراقب، نبهت إلى قيمة وضرورة الردع المناسب، في تحجيم "الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بائع الكلام وشريك الفتن المحدقة بالمنطقة"[1].
جاءت رحلة أردوغان إلى موسكو يوم 5 آذار الماضي، بعد انصياع تركيا لمبدأ "الإحترام المتبادل" لوجهات النظر الذي تتمسك روسيا به. وقد بات من المعلوم، أن "التفاهم" المتجدد مع الرئيس فلاديمير بوتين، سبقه إزالة أردوغان ووزير دفاعه للافتات التهديد التي رفعاها ضد حكومة الجمهورية العربية السورية، بعد مقتلة الجنود الأتراك في المعركة الأخيرة من حرب إدلب[2].
كانت "مشاهد بكاء وصراخ الجنود الأتراك" بين أطلال مدينة سراقب الإستراتيجية ذات وقع شديد، على بعض المحللين، حتى بالغوا في التساؤل عما إذا كانت "معركة إدلب هي بداية النهاية لأردوغان في سوريا". فالجنود الأتراك الذين حصدتهم نيران الجيش العربي السوري وحلفائه، "كانوا يعتقدون أنهم ذاهبون في نزهة استعراضية بسبب عنتريات وتصريحات أردوغان"[3].
شكلت معركة تحرير سراقب في محافظة إدلب، "نقطة تحوّل في الصراع حيث ظهر أنّ النفوذ التركيّ في تلك المحافظة ليس أمراً واقعاً"[4]. وهذا ما بدا من مقدمات اجتماع موسكو بين بوتين وأردوغان. إذ استبقه الأتراك بالإعلان عن أن "الدبلوماسية السياسية ستكون [خلاله] أكثر حسماً من الدبلوماسية العسكرية"[5]. وبالفعل، خرج الطرفان ليشددا على أن الحل الوحيد الممكن في سوريا هو الحل السياسي لا العسكري.
إن تعديل ميزان القوى بالردع القاهر، الذي فرضته القوات المسلحة السورية والقوات الحليفة لها، لا سيما القوات الروسية، على جيش الإحتلال التركي، هو ما قيَّد أردوغان وديبلوماسيته بمبدأ "الموقف البنَّاء" الذي تعتمده السياسة الروسية في سوريا. بل إن هذا المبدأ كان في أصل عملية ضم أنقرة إلى اتفاقات آستانة وسوتشي، ثم تفاهم موسكو يوم 5 آذار الماضي. كما أنه سيكون في أساس أي تعاقدات مشابهة قد يستوجبها الحل السياسي في سوريا لاحقاً.
في الوقت الراهن لا يزال الطريق شاقاً للوصول إلى هذا الحل. فالصور والمعلومات المنشورة على مواقع التواصل الإجتماعي، تبين أن أردوغان لم يتخلَّ عن دعم جبهة النصرة أي تنظيم القاعدة في بلاد الشام وبقية الميليشيات الإرهابية المتمركزة في إدلب[6] ومحافظات سورية أخرى. ويعود ذلك إلى أن النظام "الإخواني" الذي "حوَّل المواطنين الأتراك إلى رعايا"، وتشتد متاعبه الداخلية[7]، لا يزال يجاهر بأطماعه الإقليمية في سوريا وبقية الدول العربية[8].
إن تكيف أردوغان مع نتائج معركة إدلب، ورجوعه إلى التفاهم مع الرئيس الروسي، هو نتيجة الجهد العسكري الذي يبذله الجيش العربي السوري وحلفائه، من أجل دحر تحالف العدوان الأطلسي ـ الصهيوني ـ التركي، وصون مبدأ "الموقف البنَّاء" وتعزيز مرتكزاته الديبلوماسية والسياسية والإستراتيجية. فهذا المبدأ هو جزء من طبيعة الحل السياسي وأسسه وأهمها : حفظ وحدة وسلامة واستقلال سوريا وسيادة الشعب السوري على أراضيه وحقه في اختيار نظام الحكم المناسب له، بعيداً عن إملاءات قوى العدوان الخارجي.
لقد أحدثت معركة إدلب آثاراً بالغة في الأجندة الديبلوماسية الإقليمية والدولية. إذ تبوح بعض الدول العربية والأجنبية بحاجتها إلى أن تكون "طرفاً ثالثاً" في تفاهم موسكو الأخير، أو في اتفاقات مماثلة، لكي تمحو الفشل الديبلوماسي الذي راكمته إبان الحرب التي شنتها هذه الدول على سوريا طيلة السنوات الماضية، ولا تترك معزولة عن عملية الحل السياسي في سوريا.
إن سعيها للدخول كطرف ثالث في التفاهم مع روسيا، يبين كم أن الدول المذكورة مجبرة، كالنظام الأردوغاني، على التلاؤم مع تغير ميزان الردع في مرحلة ما بعد سراقب لصالح محور المقاومة وروسيا. وهي تتوزع بين من كان حتى الأمس القريب جزءاً من قوى العدوان، وبين من لا يزال، بالفعل، شريكاً في العدوان على سوريا. لكن حقائق الميدان ودواعي المصالح تحتم عليها التوجه شرقاً. حيث تؤكد موسكو أنها مستعدة للإصغاء إلى هذه الدول، كما فعلت مع تركيا، بشرط التزامها بمبدأ "الموقف البناء" تجاه سوريا.
هيئة تحرير موقع الحقول
الأحد، 19 شعبان، 1441، الموافق 12 نيسان، 2020
[1] "أردوغان.. أجندة عثمانية بوصفة جينية". مقال الصحفي السعودي عمر علي البدوي. منشور يوم 28 شباط/فبراير 2020، في صحيفة "العرب" البريطانية.
[2] “النصرة” أم “حراس الدين” ضحية التفاهم الروسي التركي؟. مقال الباحث والأكاديمي التركي سمير صالحة. منشور يوم 2 نيسان/أبريل 2020، على موقع بوست 180.
[3] معركة إدلب: هل هذه "بداية النهاية لأردوغان في سوريا"؟. تقرير منشور يوم 28 شباط / فبراير 2020، على موقع الراديو البريطاني.
[4] ما الذي يحدّد مسار نتائج قمّة بوتين وإردوغان؟. مقال جورج عيسى. منشور يوم 5 آذار / مارس 2020، في جريدة النهار البيروتية.
[5] "رويترز" نقلاً عن مسؤول تركي كبير. تقرير منشور يوم 5 آذار/ مارس 2020، في جريدة الخليج أون لاين.
[6] "الحرب في سوريا وخيارات تركيا المحدودة". تقرير منشور يوم 28 شباط / فبراير 2020، على موقع الراديو البريطاني. وقد جاء في هذا التقرير، تحت عنوان "دعم المتطرفين" ما يلي :
"أظهرت الصور المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي مقاتلين سوريين موالين لتركيا وهو يستخدمون مدرعات تركية، بينما قدم الجيش التركي الدعم الناري لعمليات المعارضة السورية عبر القصف المدفعي والبري لمواقع القوات الحكومية" السورية.
[7] "تركيا..الوباء الطبقي". مقال للكاتبة التركية عائشة كربات، منشور يوم الأول من نيسان 2020، على موقع "المدن" المدعوم من قطر.
[8] "أردوغان يعلن سقوط قتلى من قواته في ليبيا ويؤكد: سياستنا في سوريا ليست عبثية". تقرير منشور يوم 22 شباط / فبراير 2020، على موقع محطة سي أن أن. وينقل التقرير عن وكالة الأناضول الرسمية، تصريحاً للرئيس التركي، جاء فيه : أنه "إذا تهربنا من خوض النضال في سوريا وليبيا والبحر المتوسط وعموم المنطقة، فإن الثمن سيكون باهظا مستقبلا".