عجلت العولمة في تعديل ميزان القوى الإقتصادي في العالم، وتغيير واقع (ومفهوم) سيادة الدولة في المجالين الداخلي والخارجي. ويذكر مقال نزيرة الأفندي (1) بوحدة الإقتصاد السياسي الدولي، ونسبية مفهوم الإستقلال القومي في العالم المعاصر، مع أن موضوعه لا يتعدى تحليل أزمة الأسواق المالية الراهنة :
“الأزمة المالية” والاقتصاد العالمي
شهد الاقتصاد العالمي مجموعة من التطورات والمنعطفات الحادة منذ عدة أشهر مضت. لا تزال انعكاساتها، والنتائج المترتبة عليها قائمة حتى الان. وبعضها يزداد حدة وعمقا. كانت البداية، في تداعيات السوق العقارية الأميركية، ثم توالت توابعها المالية في الهزة التى تعرضت لها العديد من المصارف الاستثمارية، وأسواق المال العالمية، والانخفاض الحاد في قيمة الدولار.
ترتب على كل ذلك حدوث خلخلة في توازن القوى الاقتصادية على الصعيد العالمي، وإعادة ترتيب المقاعد حول مائدة الثروة. ومقابل ارتفاع أسعار النفط الخام والذهب، وتراكم الفوائض المالية التجارية والبترولية عند البعض، تظهر أرقام متزايدة للعجز المالى والتجارى لدى آخرين. ولا بد أن نشير إلى الأثر السلبى للعولمة في سرعة انتقال هذه الأزمة المالية من دولة لأخرى، متجاوزة في ذلك حدود التأثير الفعال لمجموعة الدول السبع الكبرى، حيث انحسر نفوذ رؤساء مصارفها المركزية في ادارة حركة التدفقات المالية وتقلبات أسعار الصرف العالمية.
التصريحات والإجراءات التى اتخذت لمواجهة المشكلة في أحد القطاعات، أدت إلى تعقيد المشكلة على الصعيد القومى، وتصديرها إلى الصعيد العالمي. أبرز الأمثلة في هذا الصدد، الاجراءات المتخذة من جانب بنك الاحتياطى الفيدرالي الأميركي للخروج من وطأة الأزمة العقارية وتوابعها المصرفية.
فقد أدى توالى الإجراءات وحقن الاقتصاد بما يقترب من 430 مليار دولار، بالإضافة إلى صفقة الإنعاش المعلنة من جانب الكونغرس، إلى رد فعل ايجابى محدد، سرعان ما تبخر وبدأت دورة أزمة الثقة في البورصة والعملة الأميركية من جديد.
لقد ترتب على التصريحات التى أدلى بها محافظ الفيدرالي الأميركي “بن برنانك”، مطالبا فيها المصارف بضرورة إعانة المقترضين وإلغاء جزء من الديون العقارية، انخفاض حاد في الأسهم الأميركية، ما أثر بالتالى على الأسواق العالمية الأخرى.
وينطبق الوضع نفسه على تصريحات المستثمر الملياردير “وارن بيفيت، وقال فيها بأن الاقتصاد الأميركي في حالة ركود، وأن الدولار سيعاني مزيدا من الضعف والانخفاض. فقد أدت هذه التصريحات إلى مزيد من الضعف في قيمة الدولار.
أما النقطة التالية الجديرة بالملاحظة، فهى التغيرات التى طرأت على الأوزان النسبية للقوى الاقتصادية في العالم. فمع التسليم بأن الولايات المتحدة لا تزال في المقدمة اقتصاديا، تليها اليابان، وما تمثله “منطقة اليورو” أو الاتحاد الأوروبى بصفة عامة، من ثقل اقتصادى يعتد به، إلا أن الأوزان النسبية لكل منها، على الصعيد العالمي، لم يعد قائما كما كان.
فقد انخفضت نسبة الاعتماد المطلق على الطلب الأميركي من صادرات العالم لإنعاش الاقتصاد الدولي، بسبب تعاظم الطلب المحلي في الدول الصناعية الجديدة، وبخاصة في القارة الآسيوية. إن إنتاج هذه الدول أصبح مدفوعا بارتفاع معدلات نموها، وتحسن مستوى معيشة أفرادها، ناهيك عن الزيادة السكانية، لتصبح أكبر سوق استهلاكية في العالم.
من ناحية أخرى، فقد انكمشت الأهمية النسبية التى تمثلها الصادرات الأميركية بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي الأميركي. ومن ثم، فإن الاعتماد على مقولة إن انخفاض “الدولار الأميركي” سيؤدى إلى إنعاش الصادرات الأميركية، لن يحدث بصورة آلية تلقائية. لأن هذه الصادرات لا تمثل سوى نسبة 12 في المئة من هذا الناتج المحلي الإجمالي. ما يعني أن أثرها في زيادة الإنفاق الاستهلاكى للأميركيين لا يمثل نسبة ضخمة. بل إن ارتفاع قيمة الدولار الأميركي مرهون بزيادة طلب الدول الصناعية الجديدة عليه.
في إطار “العولمة” و”التغيرات التى طرأت على الأوزان النسبية للقوى الاقتصادية في العالم”، يكون تناولنا للتطورات الأخيرة، وفي القلب منها “الأزمة المالية” التى بدأت في الولايات المتحدة، وانتقلت منها إلى العديد من الدول الأخرى. ما زاد نقاط التماس والحساسية الاقتصادية الناجمة عن اختلاف الأوزان النسبية في الاقتصاد العالمي.
“فقاعة العقارات”
كانت “الفقاعة العقارية” الأميركية هى نقطة البداية للأزمة، وقد جاءت تطوراتها على النسق نفسه الذى شهدته اليابان خلال عقد التسعينيات، الذى اصطلح على تسميته “بالعقد المفقود”.
بدأت الأزمة العقارية، وهي السابعة منذ عام 1960، نتيجة التوسع في الإقراض العقاري، بواسطة قروض مصرفية، يتم تمويلها عبر سندات مضمونة بهذه العقارات. ويتم التأمين على هذه السندات، وبالتالى القروض، من جانب شركات تأمين عملاقة ذات جدارة ائتمانية مرتفعة لا تقل عن AAA.
شملت الأزمة مليونى رهن عقارى تبلغ قيمتها 350 مليار دولار، بأسعار فائدة مرتفعة حتى 2010. وقد تجلت الأزمة العقارية الأميركية في عدة مظاهر، أبرزها : تجاوز قيمة القروض الممنوحة لقيمة الملكيات أو العقارات المرهونة، نتيجة انخفاض أسعارها. وتزايد حالات العجز عن السداد، وبالتالى نزع الملكيات. وهكذا، ارتبط أطراف الأزمة فيما بينهم في حلقة “مفرغة”.
لقد أدت أزمة القروض إلى زيادة الديون الهالكة لدى المصارف الأميركية، نتيجة التوسع في الإقراض أو الاستثمار في السندات الممولة لهذا الإقراض، وبالتالى زادت الديون الهالكة لدى شركات التأمين الضامنة لها، ما انعكس على “قيمة الدولار” في الأسواق العالمية، وكذلك، على أسعار الأسهم، وخاصة أسهم المصارف والشركات المتورطة في الأزمة العقارية.
ويكفي أن نشير إلى أن شركات التأمين ضامنة لسندات تبلغ قيمتها 12.4 ألف مليار دولار، وأن أحد المصارف الرئيسية المتأثرة بهذه الأزمة، وهى مجموعة سيتى غروب، قد شطبت 18 مليارا من الدولارات، وعانت من خسائر مالية بلغت 9.83 مليار دولار في الربع الأخير من عام 2007، كما تتوقع خسائر اضافية في الربع الأول من العام الحالي (2008) تبلغ 12 مليار دولار.
لقد انخفضت أسهم هذه المجموعة إلى أدنى مستوى لها، على مدى عقد كامل، في آذار/مارس 2008 .
ولكي تتضح، لنا، الصورة الكاملة للآثار المتراكمة على الأزمة العقارية. يكفي أن نشير إلى أن ثروات العائلات الأميركية انخفضت 347 مليار دولار خلال الربع الأخير من العام الماضي، نتيجة انخفاض أسعار العقارات والأسهم والأوراق المالية. وقد أفضى ذلك إلى انخفاض إنفاق هذه العائلات، خاصة بعد اتباع المصارف لسياسة ائتمانية متشددة، تقلل من فرص الاقتراض، وانتهاج الشركات سياسة تقشفية في مجال الاستثمار، واللجوء إلى خفض أعداد متزايدة من العمالة.
وإذا علمنا أن إنفاق الأسر الأميركية يشكل نسبة 71 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، فستتضح لنا أبعاد الحلقة المفرغة المترتبة على الأزمة العقارية الأميركية. فقد دفعت هذه الأزمة بأرقام البطالة في شهر شباط/فبراير 2008 إلى أعلى مستوياتها في غضون خمسة أعوام، حينما جرى الاستغناء عن 63 ألف وظيفة.
وبالانتقال إلى السياسات المتخذة لمواجهة الأزمة وآثارها المتراكمة، سوف نجد أن محافظ المصرف الفيدرالي “بن برنانك” لجأ الى سياسة الخفض المتتالي لأسعار الفائدة، ما عمق من ضعف قيمة الدولار في الأسواق العالمية، وتحديدا في مواجهة اليورو والين.
تبع ذلك إعلان الرئيس بوش عن صفقة الإنعاش التى دعمها الكونغرس الأميركي. ثم الحقن المتتالي لكميات ضخمة من الأموال، من جانب الفيدرالي الأميركي إلى المصارف [المتعثرة] بأسعار فائدة منخفضة. فقد ضخ الفيدرالي الأميركي خلال شهر آذار/مارس 2008، مئتي مليار دولار في السابع منه، ثم 230 مليار دولار في الحادي عشر من الشهر نفسه، ضمن جهود أميركية وأوروبية مشتركة.
وتعبر تلك الإجراءات عن تزايد القلق من انخفاض قيمة الدولار، واتجاه الاقتصاد الأميركي إلى الركود. حيث لم تفلح صفقة الرئيس بوش، ولا الاتفاقيات الأميركية ـ الأوروبية التى أعلنت في ديسمبر 2007، في مجال مبادلة الدولار باليورو، في الخروج من “عنق زجاجة” الأزمة العقارية.
التداعيات العالمية للأزمة
بالانتقال من “الجزء” إلى “الكل”، سوف نجد أن الإجراءات المتخذة على الصعيد الأميركي، لم تنقذ الاقتصاد بالصورة المتوقعة، ولكنها أدت إلى تداعيات سلبية على الصعيد العالمي.
ومن وجهة النظر الأميركية ـ الأوروبية، فقد ارتفعت مخاطر فقدان القيادة والسيادة في الاقتصاد العالمي. إذ من المعلوم، أن هدف التخفيض المتتالي لأسعار الفائدة الأميركية، كان تقليل عبء المديونية العقارية المتراكمة. إلا أن الإجراء نفسه أدى إلى تدهور قيمة الدولار، وتدافع الاستثمارات الأميركية والعالمية، نحو النفط الخام والذهب كمخزن للقيم وقت الأزمات المالية. وهذا التدافع عززته، تقلبات حادة شهدتها البورصة الأميركية والعالمية نتيجة خسائر المصارف الأميركية والأوروبية.
أصبحت هذه التطورات مراكز ضغط اضافي على “الاقتصاد الأميركي”، وجعلت الاجراءات الانعاشية والتدعيمية تفقد مفعولها، بعد فترة محدودة ويتلاشى تأثيرها. إن السبب الموضوعى لعمق الأزمة العقارية الأميركية وطبيعتها المفرغة، يكمن على الصعيد العالمي، في العجز الأميركي المتراكم، سواء في الميزان التجارى أو ميزان حساب المعاملات الجارية، بينما تزخر كثير من الدول الآسيوية، وعلى رأسها الصين بالاضافة إلى الدول العربية الخليجية، بتراكم في الفوائض المالية التجارية والبترو دولارية.
وتبحث هذه الفوائض عن أفضل فرص استثمارية خارج نطاق اقتصاداتها القومية أو الوطنية، سواء كان في شكل مزيد من “الدولارات” أو الاستثمارات في الأوراق المالية الأميركية كسندات الخزانة، أو العقارات. ولكن قرارات خفض سعر الفائدة، وانكماش سعر صرف الدولار، تؤدي إلى انكماش القيمة الحقيقية لتلك الاستثمارات.
يدفع هذا الإنكماش بالكثير من حائزي تلك الفوائض إلى إعادة النظر في ترتيب أولوياتها الاستثمارية، والتخلص من الإستثمارات المشكوك في جدواها، لصالح المضاربات السلعية على البترول والذهب والسلع الأولية بصفة عامة. وقد كانت وجهة النظر الأميركية تنصرف إلى أن سياستها النقدية مخاطرة محسوبة، لن تصير “ركودا عالميا”، نظرا لقوة الاقتصادات الآسيوية وارتفاع معدلات نموها.
إلا أن النظرة نفسها، أغفلت ما سوف يترتب على هذه السياسة من تعميق حدة بطء النمو الاقتصادي الأميركي، واندفاعه إلى الركود في ظل مجموعة من المؤشرات السلبية التي تسيطر عليه. بما يضعف القوة النسبية لهذا الاقتصاد على الصعيد العالمي. وقد تجلت بصورة واضحة الحساسيات السياسية التى نجمت عن الفوائض المالية المتراكمة، والعجز المالى الأميركي، في الجدل الدائر حول صناديق الثروات السيادية، لدى روسيا والنرويج والصين ودول الخليج.
قدمت صناديق الثروة المملوكة للصين ودول الخليج دعما للمصارف الأميركية المتعثرة، مثال مورغان ستانلى، وسيتى غروب، وميريل لانش، مع اندلاع الأزمة العقارية والخسائر المالية التى منيت بها هذه المصارف. لكن الدوائر الأميركية والأوروبية نظرت بعين الانتقاد، إن لم يكن بالعدائية، لهذه الصناديق السيادية وقراراتها الاستثمارية في مجال تقديم القروض والاستحواذ على جزء من حصص الشركات العالمية المتعثرة.
وتتناسى هذه الدوائر أنه لولا الأزمة العقارية التى تفجرت على الأراضى الأميركية، وما أدت إليه من إجراءات مواجهة متأخرة، وغير متواصلة، ولولا العولمة التى رفعت راياتها واشنطن، والسياسات النقدية المترددة التى أنتجتها، لما كان يحدث هذا الانكماش النسبى في الدور والعملة الأميركية، لصالح الدول الصناعية الجديدة ذات الفوائض التجارية، متضامنة في ذلك مع الفوائض البترو دولارية.
(1) نائب رئيس تحرير مجلة الأهرام الاقتصادي.
COMMENTS