تاريخ تركيا الدموي ضد العالم العربي ما زال يطاردها حتى اليوم، لذلك كانت حيلتها الوحيدة هي اللجوء لمفهوم «الخلافة الإسلامية»، فهو سبيلها الأوحد لدخول عالم العرب الثقافي لكسب التأييد الشعبي العربي.
قال أبوبكر الصديق – رضي الله عنه – عندما دعي بلقب خليفة الله: «لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله»، وهذا اللقب يمثل صفة أبي بكر الاعتبارية في دولة الخلافة الراشدة، وأبوبكر هو الوحيد في التاريخ الإسلامي الذي ينطبق عليه لقب خليفة رسول الله، فهو يحتكر هذا اللقب لوحده بلا منازع، وحتى عمر بن الخطاب، وهو من هو، لم يكن ينطبق عليه لقب خليفة رسول الله.
قد يستغرب القارئ قولنا هذا، ولكن كتب التاريخ تخبرنا بأن الصحابة الكرام بعد وفاة أبي بكر لم يكونوا يلقبون عمر بن الخطاب بلقب خليفة رسول الله، بل بلقب خليفة خليفة رسول الله، وهذه هي صفته الاعتبارية ومكانته في التاريخ الإسلامي، وبسبب هذا التكرار والطول في اللقب اقترح المغيرة بن شعبة لقب أمير المؤمنين قائلا: «أنت أميرنا ونحن المؤمنون فأنت أمير المؤمنين»، ومن هنا كانت بداية لقب أمير المؤمنين.
أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، يمثلون أركان الخلافة الراشدة، وبنهاية عصرهم أسدل الستار على حقبة من حقب التاريخ الإسلامي لن تتكرر مجددا، لأن لها ظروفها الخاصة بها التي لن تتجدد في أي عصر آخر، فهؤلاء الأربعة قد عاصروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وشرفوا بصحبته، وكانوا ملازمين له، وأخذوا الدين مباشرة منه، وهم من العشرة المبشرين بالجنة، وضمن «السابقون الأولون» من المهاجرين، فلا شك أن لهم مكانة دينية مرموقة اختصوا بها.
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بخلافتهم الراشدة: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة»، رواه أبوداود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
هذا الحديث الشريف هو ما جعلنا نقول بأن الحقبة المقدرة بثلاثين سنة التي تمثل عمر الخلافة الراشدة لن تتكرر، لأنها مرحلة استثنائية من مراحل التاريخ الإسلامي، فالرسول قد أمرنا باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، إذن ما سنه الخلفاء الراشدون حجة يجب اتباعها، ليس لأنهم مشرعون جدد أو لأنهم ابتدعوا سنة محدثة، ولكن لأن سنتهم مطابقة لسنة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو من تمام عدالتهم والثقة بأقوالهم وأخبارهم، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكذبوا على الرسول، صلى الله عليه وسلم.
فهل هذه المواصفات المنطبقة على دولة الخلفاء الراشدين تنطبق بشكل أو بآخر على الدولة العثمانية ورموزها؟ وهل هناك أي مضمون ديني لتاريخ الدولة العثماني، أو أنها امتداد لدولة الخلافة الراشدة؟ بالطبع لا، فالرسول أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين لأنها مطابقة لسنته، ولكنه لم يأمرنا باتباع سنن العثمانيين، وهذا هو الفرق الكبير بين الدولتين.
كان عمر بن الخطاب خليفة خليفة رسول الله، وهذا اللقب هو صفته الاعتبارية، إذن ما هي صفة السلطان العثماني عبدالحميد الثاني على سبيل المثال؟ أو بمعنى آخر: خليفة من يعتبر عبدالحميد الثاني؟ إن الخلط الكبير في المسميات جعل كثيرا من العرب والمسلمين يعتقدون بأن الدولة العثمانية ليست إلا امتدادا لدولة الخلفاء الراشدين، حتى أصبح إلغاء دولة العثمانيين يعد إلغاء لجزء من الدين، ونهاية الدولة العثمانية هو نهاية الخلافة ذات الطابع الديني.
استغل كثير من الأحزاب والتنظيمات هذا الخلط وعدم الفهم للفوارق الشاسعة بين مكانة الخلفاء الراشدين وغيرهم، فصاروا يستغلون هذه النقطة للتبشير بعودة الخلافة الغائبة والخليفة الغائب، وأنهم هم المتكفلون بعودته، وهي بطبيعة الحال حيلة سياسية في سبيل كسب تعاطف الجماهير وإلهاب مشاعرهم.
ولأن تركيا الحديثة تعيش حالة أشبه ما تكون بالعزلة الثقافية، فلا هي مقبولة ثقافيا وسياسيا في دول الاتحاد الأوروبي، وفي نفس الوقت تشعر بأنها عاجزة عن الانصهار والاندماج ثقافيا مع العالم العربي، لأن تاريخها الدموي ضد العالم العربي ما زال يطاردها حتى اليوم، لذلك كانت حيلتها الوحيدة هي اللجوء لمفهوم (الخلافة الإسلامية)، فهو سبيلها الأوحد لدخول عالم العرب الثقافي لكسب التأييد الشعبي العربي، فبداية من عدنان مندريس مرورا بأربكان ونهاية بزعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب إردوغان، وكلهم قدموا أنفسهم للعالم العربي بصورة مناضلين ومعارضين لمفهوم الدولة الأتاتوركي، ولديهم رغبة في حال حصلوا على التمكين اللازم والسيطرة الكافية على إحلال النموذج العثماني محل النموذج الأتاتوركي، فهم يدركون جيدا الفهم الخاطئ لمفهوم الخلافة عند الكثير من العرب.
محمد السعد، كاتب عربي من السعودية
نشر في "الوطن" السعودية، يوم 28 حزيران/ يونيو، 2018
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محرر الحقول :
مصدر صورة المقال من موقع الديوان