خاص ـ الحقول/ … إلى سمر وفضل، والدَيّ الشهيد ليث الخالدي. بالأمس القريب كانوا يقتلون رفاقنا، اليوم يقتلون أطفالنا ويحرقونهم. ليس أمامنا سوى المقاومة أو ننتظر الإبادة.
في السادس من آب ١٩٩٠ صدر قرار مجلس الأمن ٦٦٠ القاضي بفرض الحصار على العراق. في ١٢ أيار ١٩٩٦، حين كان التقدير أن نصف مليون طفل عراقي كانوا قد استشهدوا نتيجة الحصار الغربي الهمجي، جرى الحوار التالي في برنامج «ستين دقيقة» على محطة «سي بي اس» بين مقدمة البرنامج ليزلي ستاهل وممثلة الولايات المتحدة في الامم المتحدة حينها مادلين أولبرايت.
ـ ستاهل: «سمعنا أن نصف مليون طفل (عراقي) قد توفوا (نتيجة الحصار). هذا أكثر من عدد الأطفال الذين ماتوا في هيروشيما. هل الثمن يستحق هذا؟».
ـ أولبرايت: «أظن أن هذا خيار صعب، لكن الثمن، نعتقد أن الثمن يستحق ذلك».
لم ترمش أولبرايت أبداً وهي تتفوه بأكثر العبارات التي تقشعر لها الأبدان، والتي تؤكد، كما قال أستاذ القانون في جامعة ايلينوي فرانسيس بويل، «وجود نية مسبقة لارتكاب إبادة جماعية» [1]. أي نوع من الوحوش يمكنه الحديث عن قتل نصف مليون طفل بهذه البساطة؟
بعدها بستة أشهر، في٤ تشرين الاول ١٩٩٦، أكد فيليب هيفينك ممثل اليونيسيف في العراق، في تقرير للمنظمة عن العراق، أن «حوالى ٤٥٠٠ طفل عراقي تحت سن الخامسة يموتون شهرياً من الجوع والمرض». وبعدها بسنة ونصف السنة، في ٣٠ نيسان ١٩٩٨، جاء في تقرير آخر لليونسيف عن العراق بعد سبع سنوات من الحصار أن «الزيادة في الوفيات المسجلة في المشافي العامة للأطفال تحت سن الخامسة كانت بفائض ٤٠ ألف طفل سنوياً مقارنة بعام ١٩٨٩، فيما كان الفائض لمن هم أكبر من خمس سنوات ٥٠ ألف حالة موت سنوياً». محصلة الهمجية الغربية في العراق في اثني عشر عاماً، ما بين ١٩٩٠ـ ٢٠١٢، كما أجملها فرانسيس بويل في مؤتمر قانوني في كوالالمبور، كانت ٣,٣ ملايين ضحية، بينهم ٧٥٠ ألف طفل. كانت الجريمة التي ارتكبتها الولايات المتحدة وبريطانيا في العراق فريدة بكل المقاييس، لكنها لم تكن غير مسبوقة.
من الإبادات الاولى: ملك وكاهن وإبادة وعبودية وثورة
جاء في تمهيد «اليعاقبة السود» ما يأتي: «في رحلته إلى العالم الجديد، وصل كريستوفر كولومبوس أولاً إلى جزيرة سان سلفادور. بعد وصوله، حمد الله ثم قام على الفور بالاستفسار عن الذهب. ولأن السكان الأصليين، الهنود الحمر، كانوا مسالمين وودودين، قاموا بتوجيهه إلى هاييتي (وهي جزيرة كبيرة بحجم إيرلندا تقريباً) مؤكدين له أنها غنية جداً بالمعدن الأصفر. بعدها مباشرة، أبحر كولومبوس إلى هاييتي، وفي أثناء رحلته تلك، تحطمت إحدى سفنه، فقام سكان هاييتي الهنود بمساعدته طوعاً، حتى إنه لم يفقد إلا قليلاً من المتاع الذي حمله. أما الحمولة التي ساعدوه على جلبها إلى الشاطئ فلم يفقد منها أي شيء على الإطلاق.
لاحقاً، قام الإسبان، أكثر الاوروبيين تطوراً يومها، بضم الجزيرة إلى ملكهم، وأطلقوا عليها اسم هيسبنيولا، ووضعوا السكان الأصليين المتخلفين تحت حمايتهم، ثم استدخلوا إلى تلك الجزيرة الديانة المسيحية، عمل السخرة في المناجم، الجريمة، الاغتصاب، الكلاب البوليسية، أمراض غريبة لم تعرفها الجزيرة سابقاً، وأيضاً المجاعات الاصطناعية (عبر التدمير المتعمّد للمحاصيل لتجويع المتمردين). كل ذلك وغيره من متطلبات الحضارة الأعلى أدى إلى انخفاض عدد السكان الأصليين من حوالى نصف مليون، وربما مليون، إلى ستين ألفاً فقط في خمسة عشر عاماً.
في ذلك الوقت، سافر لاس كاساس، راهب من الدومينيكان تمتع بضمير يقظ، إلى إسبانيا ملتمساً ومتضرعاً من حكومتها إلغاء عبودية السكان الأصليين. (ولكن من دون إكراه السكان الأصليين كيف يمكن للمستعمرة أن تكون أصلاً؟) فكل ما حصل عليه عمال السخرة من أجور كان المعرفة بالمسيحية فقط، لكن كان بإمكانهم أن يكونوا مسيحيين جيدين دون عمل السخرة في المناجم. وبعد المساومة، وافقت الحكومة الإسبانية على إلغاء نظام السخرة قانوناً، لكن وكلاءها في المستعمرة أبقوا عليها في حقيقة الأمر دون تغيير. لهذا، دفع لاس كاساس، الذي كان مسكوناً باحتمال رؤية الفناء الكلي يحل بالسكان الأصليين أمام عينيه خلال جيل واحد فقط، بقوة للتسريع في استيراد الزنوج الأقوى بدنياً من أفريقيا الأكثر كثافة سكانياً، وهو ما حصل فعلاً. ففي عام ١٥١٧، أعطى شارل الخامس الإذن بتصدير ١٥ ألف عبد أفريقي إلى سان دومينغو. هكذا أطلق الكاهن والملك على العالم العبودية وتجارة العبيد الأميركية». (سي. ل. ر. جايمس: «اليعاقبة السود». الترجمة بتصرف).
وهناك في هاييتي، سيجترح الاوروبيون نموذجاً استعمارياً جديداً سيصنفه علم الاستعمار المقارن لاحقاً بـ«المستعمرة الزراعية» التي تستوطن الأرض وتستورد العمل، ويميزه عن النماذج الاستعمارية الاستيطانية الاخرى كالمستوطنة المختلطة (كما في جنوب أفريقيا) و«المستوطنة النقية» (كما في الاستعمارالصهيوني لفلسطين) في أن الاولى تستوطن الأرض وتستغل العمل المحلي، فيما الثانية تستوطن الأرض والعمل معاً (انظر جورج فريدركسون: الاستعمار والعنصرية).
لكن في مثل هذه الأيام، في آب ١٧٩١، سيثور العبيد في سان دومينغو تحت قيادة توسان لوفرتور، «أحد أبرز الرجال الاستثنائيين في عصر مليء بالرجال الاستثنائيين»، كما وصفه سي. ل. ر. جايمس، وسيستمر كفاح أبطال الثورة في هاييتي لأكثر من اثني عشر عاماً سينتصرون فيها على أقوى الأمم الاوروبية حينها، بدءاً بالمستوطنين البيض وجنود الجيش الفرنسي المتمركزين في سان دومينغو، ثم لاحقاً على غزو إسباني عنيف استهدف إخماد الثورة، ثم حملة إنكليزية من ستين ألف جندي، وبعدها حملة فرنسية مشابهة أرسلها نابليون بقيادة قريب له.
وإذا كان يمكن وصف ثورة هاييتي بالثورة الأعظم في التاريخ الإنساني على الإطلاق، أو «أعظم الملاحم الثورية» كما قال جايمس، فالسبب لم يكن فقط في كونها أول انتصار لثورة عبيد في التاريخ، ولا في الاحتمالات الرهيبة التي واجهتها الثورة أو ضخامة المصالح الكبرى التي كان على الثوار التغلب عليها، بل أساساً في التحول الهائل الذي حدث على الثوار أنفسهم «من عبيد كانوا يرتجفون بالمئات خوفاً أمام رجل أبيض واحد إلى شعب ثائر يستطيع تنظيم نفسه ومحاربة وهزيمة أقوى الامم الاوروبية حينها».
لكن، كان على العالم أن ينتظر أكثر من خمسة قرون، بعد استعمار هاييتي وانخفاض عدد سكانها الأصليين من حوالى مليون الى ٦٠ ألفاً، ليسمع عن مفهوم «الصراع المنخفض الحدة» الذي تبنّته الولايات المتحدة في أعقاب مجزرتي هيروشيما وناغازاكي، وليفهم ما حل بالعراق ودول أميركا اللاتينية من نيكاراغوا إلى هندوراس. وهذا النوع من الحرب لا ينتمي تماماً إلى فئات الحروب العسكرية الكلاسيكية، بل يمكن توصيفها بالحرب الشاملة التي تتضمن تكامل عمل مجموعة من البرامج العسكرية والاقتصادية والسياسية والنفسية والإعلامية والتدابير الأمنية المنسقة التي صمّمت من أجل إخضاع العالم الثالث وهزيمة الحركات الثورية المعادية للإمبريالية الغربية، وهي وريثة تقليد بدأ في عهد كنيدي تحت مسمى «الاسترجاع» وتطور لاحقاً في عهد ريغان في ما عرف بـ«مكافحة التمرد». الولايات المتحدة تبنّت هذه التقاليد بشكل ما منذ الثلاثينيات حقاً في الفيليبين ونيكاراغوا، وفي اليونان ضد اليسار في نهاية الأربعينيات. المهم أن هذه الاستراتيجية استهدفت أساساً، ومنذ البداية، دول الجنوب التي كانت الولايات المتحدة ترى فيها الخطر الحقيقي على هيمنتها على العالم ـ ربما يكون أفضل توصيف «للصراع المنخفض الحدة»، هو ما ذكره الراحل هارولد بنتر، أعظم كاتب مسرحي بريطاني، في كلمته في حفل تسلم جائزة نوبل في ٢٠٠٥: «آلاف الناس يموتون ولكن بوتيرة أبطأ مما لو أسقطت عليهم قنبلة بضربة واحدة. هذا يعني أنك تصيب قلب البلاد وتؤسّس لنموّ خبيث وتشاهد الغرغينا تزهر» (هارولد بنتر: الفن، الحقيقة، والسياسة).
الصورة الكبرى: صراع الشمال ــ الجنوب
في حروب التحرير والاستقلال، يقول أميلكار كابرال، ليس أمام دول الجنوب بديل من السلاح، فـ«الإمبريالية قد حاصرت غير الاوروبيين وعزلتهم بعيداً عن طريق التجارب التي سمحت بها للأوروبيين فقط». لهذا، طريقنا، نحن غير الأوروبيين، للمستقبل، يخبرنا هذا النبي العالمثالثي، هي غير طريق الاوروبيين، وتحتاج إلى أساليب وأدوات ومسارات من طراز مختلف. لم يكن كابرال، طبعاً، يدعو إلى العنف لذاته، ولم يكن يعشق السلاح لذاته أيضاً، لكنه كان مدركاً لطبيعة اللحظة التاريخية للعالم الذي عاشه وطبعها أساساً وميّزها صراع الشمال والجنوب. فنصوص كابرال التي تحفل بالسخط والعنف والحقد على الاستعمار هي نصوص فريدة تتميز بعمقها النظري ووعي صاحبها الكبير بحال عالمه. لكن، مثل رفيقه العالمثالثي الآخر فرانز فانون، لم ولن يرى المعلقون الغربيون في نصوصه سوى العنف والسخط «الأعمى» على الغرب، متناسين تماماً، كما قال إدوارد سعيد في «الثقافة والإمبريالية»، العنف الفرنسي في الجزائر أو العنف البرتغالي في غينيا بيساو أو عنف أوروبا الاستعمارية في كل العالم. كيف تقرأ نصّاً عبقرياً مثل «سلاح النظرية» أو «الثورة في غينيا» وتستنتج أنه دعوة عمياء إلى العنف ــ وإن فعلت فأنت إما شمالي من الشمال أو، أسوأ بكثير، شمالي من الجنوب. أنت من أنصار الاستعمار.
لكن النصوص تتغيّر، ومعانيها تتبدل، حسب من يقرأها ومتى وأين وكيف. فبعض النصوص التي كنا نظنها عبقرية ومعادية للاستعمار نرى اليوم أنها متخمة بالمفاهيم الاستعمارية عن العالم وعن مجتمعات الشمال والجنوب، ونعرف أيضاً أن خيال أصحابها المعادي للاستعمار شكلته، للأسف، أدوات نظرية ولغوية وثيقة الصلة بالإمبريالية الثقافية ــ ألا يفسر هذا جزئياً على الأقل واقع مجتمعات ما بعد الاستعمار المأساوي وفشل المشاريع الاستقلالية في العالم الثالث. لذلك، إذا كان الجنوبيون تساءلوا سابقاً «لماذا لم تمنع أفكار التنوير والحداثة أوروبا من استعمار العالم واستعباد الملايين من أهل الجنوب؟»، فلربما عليهم اليوم إعادة صياغة السؤال: كيف ساهمت أفكار التنوير والحداثة الاوروبية في التأسيس لاستعمار واستعباد شعوب الجنوب؟ هذا حديث للمستقبل.
لكن، على عكس النصوص المخيبة للآمال، هناك نصوص أخرى تبدو اليوم، بعد إعادة قراءتها في زمننا وتفسيرها في سياق اللحظة التاريخية لعالمنا، كنبوءات عبقرية لا نصوص نظرية فقط عن ثورات التحرر الوطني والاستقلال. نموذج إيران اليوم، مجتمع من الجنوب مثلنا، يستدعي بعض هذه النصوص، ليس لفهم تجربتها فقط، بل ولفهم طبيعة العالم الذي نعيشه، ومعرفة من نحن، ومن نكون في هذا العالم. الأهم، تجربة إيران تعيد الإضاءة على خطوط الاشتباك الحقيقية في هذا العالم، وتؤكد أن الطبيعة الأساسية التي تميز عالمنا لا تزال هي، هي، كما كانت حين كتب كابرال وفانون، صراع الشمال ــ الجنوب. عالمنا هذا لا يزال «عالم أبيض»، كما قال ايميه سيزير، وعلينا، بالتالي، أن نجيب عن سؤال ليوبولد شنغور الذي تجاهله أهل الجنوب لعقود: «من نحن في هذا العالم الأبيض؟». هذا هو السياق الذي يجب أن يحكم نظرتنا كعرب لأنفسنا ولإيران وللاتفاق النووي.
في هذا العالم، جادل فرانز فانون مرة في «معذبو الأرض» أن «الدول النامية» هي قوة وأداة ووسيط، التغيير في عالمه «وليس الطبقة الاجتماعية». الفكرة ذاتها صاغها كابرال بوضوح أكثر في ما يشبه الحوار مع البيان الشيوعي في «الثورة في غينيا» مجادلاً: «نحن متفقون أن التاريخ هو نتاج للصراع الطبقي، لكن نحن لدينا صراعنا الطبقي الخاص بنا في بلدنا. ففي اللحظة التي جاءت فيها الإمبريالية وجاء فيها الاستعمار، جعلتنا نترك تاريخنا وندخل في تاريخ آخر» (الثورة في غينيا، ص: ٦٨). كانت هذه الفكرة، أيضاً، أحد وجوه التمايز النظري بين الشيوعيين السوفيات، الذين قدموا وبشكل لافت دول المنظومة الاشتراكية والأحزاب الشيوعية العالمية في رؤيتهم للعالم والتاريخ على حركات التحرر الوطني العالمثالثية، والصينيين الذين جادلوا في أن المبادرة الثورية لحركات التحرر الوطني في الجنوب تعادل في قيمتها التاريخية والإنسانية كل ما حصل في أوروبا منذ عصر النهضة، مشددين، لذلك، على أن «رياح الشرق تنتصر على رياح الغرب» (انظر أنور عبد الملك، «الجغرافيا السياسية وحركات التحرر الوطني: جدلية الإمبريالية»).
كان هذا في عام ١٩٦٤. وفي ١٤ تموز ٢٠١٥، كتب محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الايراني، إلى مرشد الثورة الإسلامية الإمام علي خامنئي (وردّد الفكرة ذاتها أيضاً في مجلس الشورى الايراني في دفاعه عن الإتفاق النووي بعدها بأيام): «سيقوم مجلس الأمن للمرة الاولى في التاريخ بالاعتراف رسمياً ببرنامج لتخصيب اليورانيوم في دولة نامية» (ظريف: إيران ستبدأ بالتخصيب التجاري لليورانيوم، وكالة «تسنيم»). كانت رسالة ظريف هذه نصاً قانونياً بامتياز. لكن، وكما أدرك فانون وكابرال وسيزير وأنور عبدالملك وشنغور وغيرهم من منظري العالمثالثية، ويبدو أن ظريف يدرك ذلك أيضاً، هناك جنوب في الشمال وهناك شمال في الجنوب. هناك معازل وغيتوات جنوبية بالمعنى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في الشمال، كما أن هناك وكلاء للشمال في الجنوب وشريحة تعيش حياة شمال الشمال في الجنوب. اللافت أن هذا الشمال من أقصى جنوب جنوب أفريقيا إلى أقصى شمال إسكندنافيا لديه تحالفاته القائمة واتفاقياته وعقوده، ويتشارك أعضاؤه في رؤية واحدة للعالم، ويسيطرون على أجهزة ومؤسسات الدولة في كل مكان، ويتحكمون في التجارة الدولية، وشبكات التمويل العالمية واستخراج المواد الأولية، وحتى إنهم يتحكمون في صناعة التسلية وتشكيل الذوق العام للإنسانية جمعاء، من الرياضة إلى الثقافة المعولمة. لكن الجنوب في كل مكان، من أقصى جنوب الجنوب إلى أقصى شمال الشمال، يبدو مقسماً ومتخاصماً بطريقة تدعو إلى الأسى. فالجنوبيون غير متّحدين في أي شيء، وجهودهم وطاقاتهم الهائلة مشتتة بشكل لافت يبعث على الغضب، ورؤيتهم للعالم غير موحدة، بل وتفتيتية لمعسكر لا فرصة أمامه حتى للبقاء إلا بالوحدة ضد منظومة عالمية بربرية ذات مركزية شمالية.
أكثر من ذلك، نرى أنهم لا يختلفون إلى حدّ الخصومة والعداء فقط، بل ويتقاتلون ويستخدمون العنف المفرط وغير المبرر وغير المفهوم بعضهم ضد بعض. هذا برأيي هو اللغز السياسي الأساسي الذي ينبغي على مثقفي الجنوب حله والتعامل معه في هذه المرحلة، وهذا يستوجب قبل كل شيء أن يكون مثقفو الجنوب أنفسهم جنوبيين في الفكر والأدوات والانحيازات والخيارات ــ على كل مثقف عربي اليوم أن يسأل نفسه مثلاً: كم يعرف عن التقاليد الفكرية الجنوبية، الأفريقية أو الهندية مثلاً، إن لم نقل، كم يعرف عن تقاليده هو وتقاليد أمته، التقاليد الفكرية العربية الإسلامية، في مقابل معرفته عن التقاليد الفكرية الغربية؟ على كل مثقف عربي أن يقرأ ما يكتبه ليرى كيف يشكل الشمال وأفكار الشمال وأدوات الشمال، النظرية واللغوية، وسائط التعبير عن أفكاره وأدوات تشكيل خياله.
ولأن الموضوع وجودي بامتياز، على العرب، أيضاً، أن يتساءلوا بجدية: أين يقع إذن الخطاب الطائفي والمذهبي في بلادنا (سنّي أو شيعي أو إسلامي أو مسيحي) في هذا العالم الكبير؟ وما معنى هذا الصراع أصلاً؟ وإلى أين يقودنا؟ ربما تكون الطائفية والمذهبية لغة السياسة لبعض الأنظمة التي تعدم المشروع والمشروعية، لكن آن الأوان للقول إن هذه الذهنية تعكس بالتأكيد خللاً في مستوى التطور الإدراكي لمعتنقيها (ربما يمكن إقناع طفل عمره خمس سنوات مثلاً بخطر الشيعة أو السنّة وضمان تعاطفه، أما أن تحصل على ردّ الفعل نفسه من إنسان راشد، فهذا يعكس تخلفاً إدراكياً مرضياً). من يظن أن الإيرانيين كان بإمكانهم أن يكونوا حيث هم، وحيث نتمنى أن يكون العرب، لو فكروا كشيعة وبالشيعة فهو واهم، ولو فعلوا لكانوا حيث آل سعود الذين أنفقوا ٨٠ مليار دولار على التسلح في عام ٢٠١٤ فقط، ويعجزون بعد خمسة أشهر عن التغلب على حفنة من أبطال اليمن الفقير. الأخطر، هذا التفكير المريض والمتخلف أصبح اليوم يهدد إمكانية استمرارنا الثقافي والسياسي والتاريخي كاملة ــ وهذا هو، هو الخطر الصهيوني كذلك. فصراعنا مع الكيان الصهيوني وجودي بالمطلق، لأن وجوده منذ النكبة حتى اليوم يعرقل إمكانية تشكيل الجماعة العربية ويشوّه واقعنا بالتقسيم وفصل سوريا عن مصر. لا غرابة إذن في أن ينتج هذا الواقع المشوّه أداة تدمير ذاتي مثل داعش بديلاً لمشروع أمة بمشروع تاريخي. يمكن لمن يريد أن يكره إيران كما يريد، لكن هذا لا يغيّر معنى التجربة وفعالية النموذج الماثل أمامنا اليوم. يمكن أن نأخذ برأيي كابرال وفانون وأن نجادل أن ما حصل في تموز ٢٠١٥ هو الاختراق العالمثالثي الجدي الأول للمنظمومة العالمية ذات المركزية الاوروبية. لكن لنكتفي بزعم أكثر تواضعاً وأكثر عملية في واقعنا المهدد وجودياً: لم يكن أمام الجمهورية الإسلامية في إيران من خيار إلا أن تستثمر كل ما عندها من مصادر في البرنامج النووي، وحتى استثمار حليب أطفالهم لو لزم الأمر. فالإيرانيون، كما يبدو بعد ستة وثلاثين عاماً من الثورة، تعلموا تجربة دول الجنوب كما لم يتعلمها أحد. عرفوا أنهم ما كانوا سيجدون حليباً لأطفالهم في المستقبل لو لم يكن بين أيديهم سلاح نوعي يفرض على الغرب الجلوس على الطرف الآخر من الطاولة مطأطئ الرأس وبلا خيار سوى رفع الحصار الذي سبق البرنامج النووي بسنوات. بعد تجربة العراق وأفغانستان وكوبا ونيكاراغوا وتشيلي وهندوراس وغيرهم الكثير من شعوب الجنوب الذين وقفوا عاجزين أمام موت أطفالهم أمام أعينهم، عرف الايرانيون أن الغرب لن يأتي إلى الطاولة إلا مجبراً، ولن يوقّع إلا و«السكين في عنقه» كما قال فانون مرة. هذا هو الدرس الايراني في هذا العالم الأبيض: السلاح حياة.
عن نبي اسمه تكومسِه
تحت عنوان فاتحة هندية، جاء في مقدمة كتاب العربي العبقري منير العكش الجديد «دولة فلسطينية للهنود الحمر» (ص:١١ ـ ١٣) ما يأتي:
«على ضفة نهر تومبيغ بي وقف الزعيم الثائر الهندي تكومسِه (في أيلول ١٨١١) أمام عدد كبير من شعبي شكتاو وشيكاساو وزعمائهم يبيّن لهم خطر التمزق والاستكانة وخداع الذات، ويدعوهم إلى الوحدة والمقاومة.
لأننا إذا اتحدنا جميعا فإننا سنصبح أقوى من (الغزاة) البيض، أما إذا تفرّقنا فإننا لن نستطيع مقاومتهم، بل إنهم سيهزموننا ويسرقون أوطاننا ونتناثر كأوراق الخريف في الريح العاتيه. أليست لدينا شجاعة كافية للدفاع عن أوطاننا واستعادة استقلالنا كما كان؟ إلى متى سنبقى نعاني من طغيان هؤلاء الغرباء واستعبادهم؟ هل كتب على بني جنسنا ألا يتخلصوا من ثالوث الحماقة والاستكانة والجبن؟ ألا تكفينا عبرة الماضي؟ انظروا، أين شعوب الناراغنست، والموهوك، والبوكانوكت وغيرهم من شعوبنا وأممنا القوية؟ لقد تلاشت أمام جشع البيض وطغيانهم كما يتلاشى الثلج تحت أشعة شمس الصيف. انظروا إلى ما كان ذات يوم وطنهم الجميل، ماذا ترون الآن؟ لا شيء سوى الدمار الذي أنزله بهم ذوو الوجوه الشاحبة. كذلك سيكون مصيركم يا شعب الشكتاو وشعب الشيكاساو إذا لم نتّحد ونقاوم. انظروا إلى أشجاركم وغاباتكم الشاهقة التي لهوتم تحت أغصانها الوارفة أطفالاً، ولعبتم في فيئها فتياناً، وترتاحون اليوم عند جذوعها الظليلة بعد عناء الصيد… كلها سوف تُحتَطبُ وتُقَطَّع ليُسَوِّروا بها الأراضي التي لا يستحي الغرباء البيض من الزعم أنها أراضيهم. وغداً سيشقون الطرقات فوق قبور آبائكم ويدرسونها إلى الأبد. يا إخوتي، أبناء شكتاو وشيكاساو، إن إبادة شعوبنا تدق أبوابنا ما لم تجمعنا قضية واحدة ضد عدونا المشترك. إياكم والاعتقاد بأنكم في منجاة من هذا المصير لأنكم مسالمون. إياكم والاستهتار بهذا الخطر الداهم، أو إنكار مصيرنا المشترك. كل أبناء شعوبنا مهددون بأن يكونوا عمّا قريب مثل أوراق الخريف وقطع الغيم المتناثرة أمام الريح الهوجاء. أنتم أيضاً ستتطايرون من بلادكم ودياركم كما تتطاير أوراق الأشجار في عواصف الشتاء. إياكم والنوم قريري العين على سلام كاذب وآمال خادعة خُلَّب. إن أرضنا الواسعة تفلت من أيدينا يوماً بعد يوم، وإن الغرباء البيض يزدادون جشعاً ونهماً وقسوة وطغياناً وغطرسة. كلما تجدد النزاع بينهم وبين شعوبنا وأريق الدم، علينا نحن وحدنا أن نكفر عن ذلك بحق وبباطل على حساب حياة أعظم زعمائنا ومساحات كبيرة يغتصبونها من بلادنا.
قبل مجيء أصحاب الوجوه الشاحبة إلينا، كنا ننعم بالسعادة وبالحرية المطلقة. لم نكن نعاني من عوز أو طغيان، فكيف هي الحال الآن؟ العوز والطغيان في كل مكان. هل نملك من أمرنا شيئاً؟ ألسنا محكومين في الصغيرة والكبيرة؟ هل نجرؤ على الحركة من غير أن يأذنوا لنا؟ ألسنا نُجرّد يومياً من الثمالة القليلة الباقية من حرياتنا؟ ألا يلبطوننا ويركلوننا كما يفعلون بالمستعبدين السود؟ متى سيربطوننا على الأعمدة ليجلدونا ويُسَخِّرونا للعمل في مزارعهم؟ هل ننتظر تلك اللحظة؟ هل نتّحد ونقاوم أم نستكين وننتظر ذلك الخزي والعار؟ أليست لنا عيون ترى ما يفعلونه ويخططون له منذ سنوات وسنوات؟ أليس ذلك كافياً لمعرفة ما سيحمله إلينا المستقبل؟ ألن نطرد عمّا قريب من بلادنا بعيداً عن قبور أجدادنا؟ ألن تنسف عظام موتانا وتتحول قبورنا إلى مزارع لهم؟ هل ننتظر باستهتار أن تزداد أعدادهم ونفقد الأمل في المقاومة نهائياً؟ هل ننتظر أن نباد ولا نفعل شيئاً لإنقاذ بني جنسنا؟ هل يجب أن نتخلى عن ديارنا وأوطاننا التي وهبنا إياها «الروح الأعظم» (اسم الله عندهم)، وأن نتخلى عن كل ما هو عزيز ومقدس دون أن نقاوم؟ أعلم أنكم ستقولون معي: لا، أبداً، أبداً، أبداً. إذاً، دعونا نتحد. باتحادنا نهزمهم جميعاً، ونعيدهم حيث أتوا، وهو ما نستطيعه الآن. ليس أمامنا سوى أن نقاوم أو ننتظر الإبادة».
خاتمة: إلى أهلي في فلسطين
قاد تكومسِه، الذي أيقظ حماسة شعبه، المقاومة لسنين وكاد ينتصر. لكن تلك الحماسة أطفأها الخونة من أمثال بوشماتاها الذي نعت تكومسه بـ«المشاغب.» اتهموه بالعمل على توريط شعبه في حروب مدمرة مع جيرانهم المسالمين. خاصموه وقاتلوه إلى درجة أنهم انخرطوا في جيش المستعمرين البيض لقتال أبناء جلدتهم من أتباعه. بعد مئتين وعشرين صفحة من الكتاب (ص:٢٣٣)، هذا ما كتبه منير العكش:
«كل ما حذر منه الزعيم الثائر تكومسه شعب شكتاو، وقع. وضفة نهر «تومبيغ بي» التي سمعت كلماته شاهدة حية. فهذا النهر الذي كان يشكل الحدود الشرقية لبلاد الشكتاو افتقد أهله إلى الأبد، إذ لم يمض عقدان على صرخة تكومسه ودعوته إلى الوحدة والمقاومة حتى كان شعب شكتاو أول الشعوب الهندية التي قضت نحبها في مسيرة الدموع، بينما صارت بلاده وبيوته ومزارعه وملاعبه مرتعاً للمستوطنين البيض».
COMMENTS