يحاول “جون ميكلثويت”، رئيس تحرير مجلة الإيكونوميست البريطانية، و” أدريان وولدريدج”، مدير تحريرها، في هذا الكتاب، دراسة أوجه القصور التي يعانيها النموذج الحالي للدولة في الغرب، واقتراح تبني أفكار وسياسات جديدة من شأنها أن تُمثل ثورة رابعة لإعادة إنتاج أو التفكير في الدولة مرة أخرى في المجتمع الغربي.
تضخم جهاز الدولة والبديل الآسيوي
يبدأ الكاتبان بسرد المعضلة التي يعانيها العالم بوجهٍ عام، والمجتمعات الغربية على وجه الخصوص، وهي تضخم جهاز الدولة، وقصور أداء الحكومات، وتراكم أعبائها المالية، وهو الأمر الناتج عن تلك العيوب الإدارية والسياسية التي تعتري الصيغة الحالية للدولة.وعدّد الكاتبان مجموعة من الأسباب التي تقف وراء تراجع فاعلية الأداء الحكومي، وهي: تضخم الجهاز الحكومي، وارتفاع معدلات الإنفاق الحكومي بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي، والافتقار إلى الكفاءات البيروقراطية في الأجهزة الحكومية . أضف إلى ذلك الشلل الذي يصيب الكثير من الحكومات الغربية بسبب عيوب في العملية الديمقراطية نفسها، وهو ما سماه الكاتبان “العجز الديمقراطي”، حيث تتحول عناصر قوة الديمقراطية إلى عوامل ضعف تعيق الحكومات في أداء مهامها.
يرى الكاتبان أن الحكومات المتضخمة والمترهلة تمثل خطرا على العملية الديمقراطية، لأنه كلما زادت مسئوليات الحكومة، انكشف سوء إدارتها، وتصاعد الغضب الشعبي ضدها، مما يحشد المطالب وراء حكومة جديدة ذات مسئوليات اجتماعية أوسع، وهو ما يجعل المجتمع يدور في حلقة مفرغة.ويمكن إظهار المدى الذي وصلت إليه معدلات الإنفاق الحكومي ليصبح خارج نطاق السيطرة، من خلال تعقب مؤشرات الاقتصاد البريطاني، حيث ازداد معدل الإنفاق الحكومي في بريطانيا من 36% من الدخل القومي إلى 44%، في الفترة من 1999 إلى 2007، ثم وصل إلى أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2011، إلى أن بدأ يتراجع منذ ذلك الحين. وكذلك، فقد تضخّم الدين القومي في بريطانيا من 570 مليار جنيه استرليني في عام 2008 إلى 1.270 مليار جنيه استرليني عام 2014، ومن المتوقع أن يتخطى 1.400 مليار جنيه استرليني بحلول عام 2016.
ويتجه الكاتبان بعد ذلك لتحليل فكرة “العجز الديمقراطي” الذي تسببت به الصراعات السياسية والأيديولوجية بين الأحزاب في المجتمعات الغربية، ومن ثَمًّ الحديث عن البديل الآسيوي في هذا الإطار من خلال استدعاء تجربتي سنغافورة والصين. فقد تبنى ديكتاتور سنغافورة “لي كوان يو” فلسفة سياسية واجتماعية تستند إلى أن الدولة تحتاج إلى النظام “Discipline” أكثر من الديمقراطية، وأن الحكم الرشيد يعتمد على نخبة من المتعلمين الصالحين، ولا يعتمد بالضرورة على رأي الأغلبية.
وتجسدت تلك الفلسفة في تجربة “الحزب الشيوعي الصيني” في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي يصفه الكاتبان بأكبر “إدارة موارد بشرية” في العالم بسبب احتفاظه بملفات لكل القيادات الاقتصادية والعلمية والإدارية في البلاد، مما يسمح باختيار الأكفأ منهم لقيادة المناصب والشركات الحكومية.
وقد أنشأت الحكومة الصينية عام 2005 في مدينة شنغهاي أكاديمية للقيادات العليا، وذلك لبناء كادر بشري ضخم من البيروقراطيين الأكفاء، ولم ينصب اهتمام الأكاديمية على تلقين أيديولوجية الحزب الشيوعي الصيني بقدر ما ركّزت على تطوير القدرات الإدارية للنخب الصينية من أجل إعدادهم لتقلد مناصب عليا، سواء في الحكومة الصينية نفسها، أو في الشركات المملوكة لها.
كما عمدت الصين إلى الاستفادة من التقدم التكنولوجي الغربي، فيقول الكاتبان إن “الصين أصبحت تركز جهودها على نقل التكنولوجيا المتقدمة من الدول الغربية بأسرع ما يمكن، وأصبح علماؤها يقومون بزيارات لـ”وادي السليكون” في كاليفورنيا أكثر من زيارتهم لواشنطن، مقر الحكومة الفيدرالية الأمريكية”.
ثلاث ثورات أعادت التفكير في الدولة
يعرج الكاتبان بعد ذلك إلى دراسة الثورات الفكرية السابقة التي أعادت إنتاج الدولة، حيث إن الدولة في الغرب تشكلت عبر ثلاث ثورات فكرية، خلال الخمسمائة عام الماضية، وقد ارتبطت كل ثورة منها بمفكر سياسي أو اقتصادي غربي، عمل على استقراء واقعه السياسي والاقتصادي، وحاول تقديم رؤى جديدة لإعادة التفكير في دور الدولة.
كانت البداية في القرن السابع عشر مع المفكر الإنجليزي “توماس هوبز”، صاحب كتاب “التنين”، الذي كتبه عام 1651، ومهّد من خلال أفكاره في هذا الكتاب إلى ظهور الدولة القومية. وقد تأثر هوبز في طرح أفكاره بتلك الظروف التي عاصرها في بريطانيا، حيث نشبت صراعات سياسية هائلة بين ملك بريطانيا، والبرلمان حول إدارة شئون الدولة، لذا فقد طرح هوبز فكرة “العقد الاجتماعي” بين الحاكم والمحكوم، وحدد وظيفة الدولة، طبقا لهذا العقد الاجتماعي بتطبيق القانون، وحفظ النظام. وهو الأمر الذي رأى أنه يحفظ الدولة والمجتمع من خطر الصراعات والحروب الأهلية، حيث يتنازل الفرد عن جزء من حريته وسلطته إلى الدولة مقابل ما تقدمه له من خدمات، مثل تنفيذ القانون وحفظ النظام. وقد نقلت أفكار هوبز المجتمع البريطاني من العصر الإقطاعي إلى عصر الدولة القومية.
أمّا الثورة الثانية، فكانت على يد المفكر جون ستيوارت ميل، حيث أسست أفكاره للدولة الليبرالية في القرن التاسع عشر. وقد نشأ ميل في عصر الثورة الصناعية في أوروبا، وهو ما جعل أفكاره تتمحور حول تعظيم دور الفرد إلى أقصى قدر كقيمة مجردة. لذلك، دعا إلى تقليص دور الدولة، وفتح الأسواق للأفراد، خاصة في ظل نمو الحاجة إلى الأيدي العاملة الحرة التي تتطلبها السوق الصناعية التي اتسعت مداها حينئذ. ونتيجة لهذه الأفكار، تقلص حجم الدولة، وانخفض حجم الضرائب، رغم زيادة عدد السكان بمقدار الضعف، وازدهرت فكرة السوق الحرة – التي كانت أحد متطلبات عصر الثورة الصناعية – بالتوازي مع قيم الحرية الفردية، والمسئولية الاجتماعية.
وجاءت الثورة الثالثة والأخيرة بما يُسمى بـ”دولة الرفاهية”، التي قامت استناداً لأفكار “بياتريس ويب” في مطلع القرن العشرين، حيث طرحت أفكارها حول دولة الرفاهية من خلال دراستها لتفاصيل الحكومة المحلية وآليات الإدارة، وتركزت أفكارها حول التخطيط، وجدارة الفرد، والعلم. لذلك، قدمت ويب إعادة قراءة لليبرالية، بالنظر إلى حقوق العمال في سياق السوق الحرة، مما ولّد نموا أكبر لدور الدولة في التخطيط، وفرض مزيدا من القيود على حرية المؤسسات. ومع نمو حجم الدولة، ارتفع معدل الضرائب، واتسع دور الدولة في الرعاية الاجتماعية.
وقد رأى الكاتبان أن هذه الثورات الثلاث قد نجحت تماماً في تجديد مفهوم الدولة في أوروبا، مما جعلها القارة الأكثر حيوية في العالم. فبينما حلت الثورة الأولى المعضلات المرتبطة بالانضباط الشعبي العام، أكدت الثورة الثانية أن عالم القوة مقيد بالحرية الفردية، وجاءت الثورة الثالثة بدولة تهتم بتوفير الخدمات المجتمعية لمواطنيها.
نحو ثورة رابعة
ذهب الكاتبان إلى أن ارهاصات الثورة الرابعة لإعادة إنتاج الدولة ظهرت في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم على يد رئيسة الوزراء البريطانية “مارجريت تاتشر”، والرئيس الأمريكي “رونالد ريجان” من خلال سعيهما إلى محاربة تضخم الأجهزة البيروقراطية، وزيادة الإنفاق الحكومي، وارتفاع الضرائب. ولكن هذه الجهود عانت ويلات الفشل على يد النظام الديمقراطي نفسه، الذي سمح لأحزاب المعارضة بإعاقة الكثير من التشريعات التي اقترحتها الحكومات.
واليوم، ورغم ارتفاع معدلات الانفاق الحكومي في الدول الغربية، فلا يزال المواطن لا يشعر بالأمن الاقتصادي، خاصة في ظل أزمة اقتصادية ضربت معظم اقتصادات الغرب، وهو الأمر الذي اتضحت ملامحه في انتخابات البرلمان الأوروبي أخيرا، والتي شهدت صعودا لافتا لأحزاب اليمين المتطرف.
ويرى الكتابان، في إطار تبني ثورة رابعة لإعادة التفكير في الدولة مرة أخرى، أنه يجب العمل على تقزيم دورها، والرفع من كفاءتها، ولا يعني هذا تخلي الدولة عن أدوارها الأساسية، لاسيما في التعليم والصحة، بل جعلها أكثر فاعلية، دون أن يعني ذلك المزيد من الإنفاق على الاستحقاقات الاجتماعية، بل تسخير التقدم التكنولوجي – لاسيما الإنترنت – وتوظيفه لتقديم خدمات ذات جودة عالية، وبحد أدنى من التكلفة، مع ضرورة نقل القرارات الاقتصادية الكبرى المتعلقة بالسياسات المالية للدولة إلى لجان وهيئات مستقلة تتشكل من خبراء تكنوقراط، مما يعطي استقلالية أكبر لهذه السياسات عن الحكومة أو الحزب الحاكم، وإتاحة فرص أكبر للمشاركة الشعبية في صياغة هذه القرارات.
كما يرى الكاتبان ضرورة أن تتسامى الدولة عن الصراعات الديمقراطية فيما بين الأحزاب لاتخاذ القرارات الحاسمة، وهو ما يعني إصلاح العملية الديمقراطية، وليس التخلي عنها. وفي هذا الإطار، اقترح الكاتبان فكرة فتح الانتخابات التمهيدية داخل الأحزاب أمام الاقتراع العام، بحيث يصبح التصويت هو المحدد الأول لاختيار مرشحي الأحزاب، وليس قصرها فقط على التوافقات الداخلية، إذ من شأن ذلك تقليل إمكانية صعود المرشحين المتطرفين، وإرغام قيادات الأحزاب على الجنوح إلى الوسط. ثم استعرض الكاتبان جملة من التجارب تقع خارج المنظومة الغربية، وتوضّح كيف يمكن تقديم خدمة اجتماعية للمواطن، ذات كفاءة وفاعلية عالية، وفي الوقت نفسه ذات تكلفة منخفضة. ففي البرازيل، تُطبق الحكومة برنامجا لتقديم مساعدات مالية للفقراء بشرط إتمام برامج التدريب، أو إرسال أبنائهم إلى المدارس، وبذلك تم سد احتياج الطبقات الفقيرة، وتنمية الموارد البشرية من خلال زيادة أعداد المتعلمين.
وفي الهند، يعاني القطاع الصحي عجزا في عدد الأطباء، حيث يوجد ستة أطباء لكل عشرة آلاف مواطن. لذلك، بدلاً من إرهاق ميزانية الدولة بأعباء مالية إضافية لتخريج المزيد من الأطباء وتدريبهم، استحدثت وزارة الصحة الهندية برنامجا تدريبيا مدته ثلاث سنوات لتخريج ممرضين قادرين على تقديم الخدمات الطبية الأساسية للمرضى، وتشخيص وعلاج الأمراض البسيطة، بدلاً من الذهاب للأطباء.
وختاماً، يؤكد الكاتبان أن الغرب استطاع الحفاظ على تفوقه وقدرته الخلّاقة بسبب نجاحه المتكرر في إعادة التفكير في دور الدولة، لكن لا تزال هناك حاجة لثورة رابعة لتعديل مسار الدولة، واستعادة القدرة التنافسية الغربية.
محمد محمود السيد، باحث متخصص في الشؤون العربية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، القاهرة.
COMMENTS